يطيب لى الاعتقاد أن الخفض «المنظم» الحالى فى قيمة الجنيه يأتى فى سياق خطة منسقة تصاحب وربما تسبق اجراء هذا الخفض لمحاصرة آثاره الاجتماعية والاقتصادية فى اضيق حدود. وربما يكون مبكرا الحديث عن اثر الخفض على الاسعار فى الاسواق ولكن ردود الفعل الاولية جاءت مطمئنة.. وربما مشجعة. وبالنسبة لكثير من الاقتصاديين وبعض المؤسسات المالية فإن اعادة تقويم الجنيه هى ضرورة ملحة لاسباب فنية فى ضوء المؤشرات الكلية للاقتصاد خاصة على صعيد تعاملاتنا المالية مع الخارج وتفاقم عجز الموازنة والدين العام، ومع ذلك فإن الاثار الاجتماعية دائما ما كانت تحول دون اتخاذ السلطات النقدية هذا الاجراء للاسباب المعروفة، وفى مقدمتها ارتفاع تكلفة الواردات بما يؤدى الى زيادة اسعار السلع والخدمات بالاسواق. رصد حالة الاسواق فى الايام القليلة الماضية يشير الى عدد من المؤشرات المطمئنة، فعلى صعيد تعاملات السوق الموازية رفعت المضاربات سعر الدولار ليلامس 8 جنيهات ولكنها تراجعت فى نهاية الاسبوع بنحو 20 قرشا، وهذا مؤشر طيب على اقتراب الاسعار فى السوقين الرسمية والموازية من بعضهما البعض، وهذا هدف دائم للسلطات النقدية منذ عودة العمل فى السوق السوداء قبل نحو 4 سنوات. ورغم انه لا يزال مبكرا دراسة اثر الخفض الاخير على اسعار السلع، الا ان ثبات اسعار السيارات مثلا يمثل مؤشرا مطمئنا حيث اعتاد الوكلاء اضافة أى زيادة جديدة فى سعر العملة الاجنبية إلى اسعار البيع، والارجح ان تأثير الخفض على غالبية السلع سوف يكون محدودا للغاية كون ان غالبية السلع التى يتم استيرادها من القطاع الخاص كانت تمول بالفعل من السوق الموازية باسعار مازالت تفوق حجم الخفض الذى طرأ على التعاملات الرسمية. عام 2014 شهد اتساعا واضحا بين اسعار الصرف فى السوقين الرسمية والموازية، وكانت معظم الواردات غير الحكومية تمول من السوق السوداء، حتى البنوك فرضت مصاريف تدبير عملة جعلت اسعار الدولار فيها قريبة للغاية من اسعار السوق السوداء، وهو ما خلق قدرا من الاعتياد على الاسعار المرتفعة التى اصبحت تحسب على اساسها تكلفة الاستيراد واسعار البيع للمنتجات المستوردة او المصنعة محليا، وهذا الامر يجعل التخفيض الاخير مجرد «تحصيل حاصل ».. أى ان الاسوأ قد مررنا به بالفعل. ومن العوامل الملطفة للآلام المصاحبة لخفض الجنيه هذا التدهور فى سعر العملة الاوروبية التى تراجعت من 1.5 دولار لكل يورو فى 2013 الى 1.15 دولار الان، وهذا تراجع جوهرى يخفف من آثار خفض الجنيه فى تجارتنا مع اوروبا التى تشكل نحو ثلث تجارتنا الخارجية، وفى هذا الاتجاه ايضا فإن تدهور اسعار النفط بنسبة تدور حول 55 ٪ مقارنة باسعار سبتمبر الماضى يقلل من اثر الخفض على المدفوعات الحكومية التى تتحملها الموازنة العامة، ويصدق الامر نفسه على اسعار الحبوب والمعادن التى شهدت تراجعات مهمة خلال الفترة الاخيرة بفعل تطورات الاقتصاد العالمي، وضعف النمو الذى اصبح آفة تصيب الجميع من الصين وحتى منطقة اليورو. خفض قيمة الجنيه عملية مؤلمة وغير مرحب بها فى الوجدان المصرى . ومنذ السبعينيات من القرن الماضى شهدت العلاقة بين الجنيه والدولار تحركات حرجة وانخفاضات متوالية بفعل ظروف كثيرة جوهرها ضعف الانتاج وزيادة الدعم والانفاق الاجتماعى للحد من اثار تكاليف الحياة المتصاعدة على الفقراء ومحدودى الدخل، وايا كان الرأى فى هذا التوجه «السياسى» الا انه اسفر عن سلسلة من الاختلالات الهيكيلية التى يتعين مواجهتها اذا اردنا ولوج اصلاح حقيقى للاقتصاد على نحو ما مررنا به فى عام 1991 الذى شهد اكبر عملية منظمة لخفض الجنيه اعترافا بالامر الواقع ودرءا لمشكلات اخطر فيما لو استمرت العلاقة العشوائية بين الجنيه والدولار على نحو ما كانت عليه قبل هذا التاريخ. لم يعد خافيا على الكثيرين ان اختيار توقيت خفض قيمة الجنيه الان له علاقة بسعى الحكومة لاعادة الاستقرار فى اسواق الصرف قبل انعقاد المؤتمر الاقتصادى منتصف مارس المقبل حيث يمثل استقرار اسعار الصرف، وليس قيمة الجنيه، أحد محددات اتخاذ قرار الاستثمار فى مصر، فالمستثمر الاجنبى يهمه، ضمن امور اخرى، عدم ضياع امواله بسبب التذبذبات فى سوق العملة 114 مليار دولار خرجت من روسيا فى 2014 بسبب تدهور سعر الروبل ومن هنا يمكن فهم التوجه نحو اقتحام ملف اسعار الصرف الان رغم دقته، فالمؤتمر الاقتصادى واحد من اهم الرهانات المصرية فى العصر الحديث، وبنجاحه فى تحقيق هدف جذب استثمارات حقيقية ونوعية يمكن الحديث عن بدء مشروع حقيقى للنهضة والتنمية المستدامة. الى اين سيصل سعر الجنيه ؟ هذا هو سؤال الساعة فنحن نرى تراجعا يوميا بقيمة 5 قروش لا نعرف متى سينتهى، التكهنات فى السوق كثيرة، واغلبها يراهن على وصوله الى سبعة جنيهات ونصف للدولار، وربما يكون هذا صحيحا، وربما يكون الهدف النهائى هو الوصول الى القيمة التى ستتحدد عندها الاسعار فى السوق الرسمية والموازية ليصبح لدينا سوق واحد للصرف لاستعادة اجواء الاستقرار فى سوق العملة.. رغم ما قد يحمله هذا التوحيد من آلام.