شهدت سائر الأقطار العربية و لا تزال تشهد العديد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بيد أن هذه الأقطار لم تتخذ آليات العدالة الانتقالية في فترات التحول الديموقراطي بعد إنهاء وإقصاء النظم الاستبدادية السابقة. وتعد آلية "كشف الحقيقة"، أحد أهم بل تأتي على قمة هذه الآليات من حيث أهميتها و فاعليتها في السعي نحو العدالة، وتحقيق السلم والمصالحة.، فأي حديث عن بناء الدوزل بعد انتهاء النظم الاستبدادية أو التحول الديمقراطي ، لا يعدو الا تنميق زائف. لقد برز الحق في معرفة الحقيقة بوصفه مفهوما قانونيا على كافة الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية، ويرتبط ذلك الحق بالتزام الدولة بتوفير المعلومات والحقائق للضحايا, ولكل المجتمع حول الملابسات والظروف التي أحاطت بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في العهود السابقة. لا غرو أن كشف ومعرفة الحقيقة مسألة قانونية أولية مهمة، ليس في حد ذاتها بل توطئة لتحقيق غايات سامية متعددة الجوانب، حيث تختلف هذه الغايات سواء كانت غايات نبيلة – مثل المساهمة في استعادة السلام وصيانته- وغايات أخرى – مثل محاربة الإفلات من العقاب، وردع انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل أو الحيلولة دون حدوثها، وتلبية مطالب الضحايا والدفاع عن حقوقهم، وإبعاد اللاعبين السياسيين السابقين عن الساحة السياسية، وإعادة تأسيس سيادة وحكم القانون. إن معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان، تمنح المجتمعات القدرة على منع تكرار أحداث مماثلة للتي وقعت، وتسهل في حالات أخرى عمليات المصالحة وإعادة البناء حيث ينظر إلى معرفة الحقيقة على أنها ضرورة جوهرية لمعالجة التصدعات والانقسامات التي تحدث في السياقات المحلية في الفترة التي تلي إقصاء النظم الشمولية والاستبدادية. كما ينظر أيضا إلى الحق في معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان باعتباره أساسا لعملية الإدعاء والاتهام الجنائي ذاتها، وذلك من خلال إجراء التحريات والتحقيقات المناسبة حول الانتهاكات المقترفة. إن المجتمع يسعي لتحقيق العدالة التي لم تتحقق في الماضي وذلك بحسبان أن العدالة قيمة سامية من قيم الديموقراطية وركيزة أساسية من ركائز حقوق الإنسان الأساسية، التي تم التأكيد عليها في كافة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، كما أقرتها التشريعات الوطنية لمختلف الدول، فضلا عن هذا الكم الهائل من أحكام المحاكم الدولية أو الإقليمية أو الوطنية في ذلك الصدد. إن معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان لا تفضي بذاتها إلى جبر ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان و حسب، بيد أنها تعد وسيلة مهمة للبدء في عملية جبر الضحايا. لقد أشارت العديد من الهيئات الدولية والإقليمية والوطنية إلى معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان، واعتبر هذا الحق مبدأ توجيهيا في عديد من المواثيق التي تنشئ لجان الحقيقة والمصالحة، وأيضا في التشريعات الوطنية. و في الحالة المصرية ، فقد كان المشهد الحقوقي المحلي ملتبسا ، مما استلزم الرئيس السابق المستشار عدلي منصور أن يتخذ قرارا مهما يلبي طموحات الشعب المصري ، و هو انشاء لجنة وطنية مستقلة ، يرأسها الأستاذ الدكتور فؤاد عبد المنعم رياض ، استاذ الاقنون الدولي بجامعة القاهرة و الجامعات المصرية و العربية و الأجنبية علي مدار ستة عقود ، فضلا عن أنه عمل قاضيا بالمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة ، حيث حاز ثقة الجماعة الدولية ، فقام بتطبيق قواعد القانون الدولي و الدولي الانساني و الدولي لحقوق الانسان ، في أشهر الأحكام القضائية التي صدرت عن هذه المحكمة الدولية . لقد عملت اللجنة علي مدار ما يقرب من العام ، من أجل التنقيب عن الحقيقة المجردة المطلقة ، و لأجل ذلك فقد استمعت اللجنة للألاف من الضحايا و الشهود ، علي الانتهاكان الجسيمة لحقوق الانسان في مصر ، في الفترة التي تلت ثورة 30 يونيو ، و حتي عقد اللجنة لمؤتمرها الصحفي اليوم . و ختاما ، فاننا نأمل أن يكون تقرير اللجنة المشار اليها ، و توصياتها و مقترحاتها للحكومة المصرية و سلطاتها و مؤسساتها المختلفة ، فاعلا مهما ووسيلة ناجعة ، لتعبيد الطريق ، و تمكين الدولة و مؤسساتها ، من أن ترسي العدل المنشود من كل فئات المجتمع المصري ، بعد أن غابت الحقائق عن الشعب لردح طويل . دكتور أيمن سلامة - أستاذ القانون الدولي العام .