لا يحتاج عبد المنعم مدبولى إلى حضور جديد، لأن حضوره مستمر ودائم وعابر للأجيال، الفنان الكبير الذى ولد فى العام 1926 وتوفى فى العام 2006، ترك رصيدا هائلا من الأعمال الفنية، تقدرها بعض المراجع بنحو 120 مسرحية، و60 فيلما، و30 مسلسلا، وعلاقته بشهر رمضان محفورة فى ذاكرة أجيال كثيرة، وعبر أعمال مميزة وشهيرة، مثل حلقات "أبنائى الأعزاء شكرا" من كتابة عصام الجمبلاطي، وإخراج محمد فاضل، واشتهر المسلسل باسم مدبولى فى الحلقات وهو "بابا عبده"، وعبر فوازير شهيرة للأطفال، كتبها مصطفى الشندويلي، وأخرجها محمد رجائي، وحمل فيها لقب "جدو عبده، وترك العملان بصمة وعلامة، سواء فى تأثيرهما أو فى مسيرة مدبولى الفنية. محمود عبد الشكور لا أزال أتذكر النجاح المدوّى لحلقات "أبنائى الأعزاء شكرا"، بمقدمته الغنائية لسيد حجاب وعمار الشريعي، وبالفرصة التى قدمها المسلسل لأبطاله صلاح السعدنى ويحيى الفخرانى وفاروق الفيشاوي، والوجه الجديد وقتها آثار الحكيم، والممثل الصاعد وقتها، والقادم من المسرح محمود الجندي، وكان مدبولى فى قلب الحكاية حضورا وأداء، وبراعة فى تقديم لمسات كوميدية خفيفة، وسط مأساة تذكرنا بمحنة الملك لير، ولكن فى إطار عصري، وتألق مدبولى أيضا فى تقديم أغنية شهيرة للأطفال هى "الشاطر عمرو"، التى جعلها المخرج محمد فاضل، من خلال المونتاج، نموذجا مبكرا للفيديو كليب، قبل أن ينتشر بعد ذلك فى سنوات التسعينيات من القرن العشرين. فى ذاكرة أجيال كثيرة أيضا فوازير جدو عبده، سواء فى صورتها الريفية، بظهور الجد "زارع أرضه"، أو بحضور الثقافة والكتب تحت عنوان "جدو عبده راح مكتبته"، وكانت مشاركة مدبولى بالغناء فى المقدمة، ومعه نجمات مثل نسرين، والمغنية عزة بلبع، جزءا أساسيا من العرض، ولا يزال أطفال تلك السنوات، يحفظون نوادر العمدة الآلي، ويستعيدون نغمات جمال سلامة التى تتغنى بالفواكه، مرددين "ياحلاوتك ياستفندى ياابن عم البرتقال "، ورد مدبولى على السؤال المحرج: "اوزنلك نص كيلو" بقوله الظريف: "تقيل ما اقدرش اشيله". عبد المنعم مدبولي، ابن حى باب الشعرية، وخريج معهد التمثيل فى دفعته الذهبية، وزميل أسماء كبيرة مهمة فى نفس الدفعة مثل عبد المنعم إبراهيم وأحمد الجزيري، هذا الممثل والمخرج والمؤلف الاستثنائي، حكاية طويلة جدا يصعب تلخيصها، ولكن يمكن الكلام فقط عن محطات سريعة مثل دراسته فى كلية الفنون التطبيقية أيضا، ومهاراته كفنان تشكيلي، واشتراكه فى عدة فرق مسرحية مثل المسرح الحر، وفرقة التليفزيون، وفرقة الفنانين المتحدين، ثم تأسيسه لفرقة المدبوليزم، ودوره المهم مع نجوم البرنامج الإذاعى "ساعة لقلبك"، بل إنه اشترك فى برنامج "بابا شارو" الشهير. فى كل مكان بصمة وتأثير، ودوره كمخرج لا يقل أهمية عن صيته كممثل، كما أنه كان يؤلف اسكتشات "ساعة لقلبك"، وبينما يعرف الكثيرون أدواره كممثل، لا يأخذون بالهم أنه مخرج أعمال أصبحت من الكلاسيكيات مثل "أنا وهو وهي" و "السكرتير الفني"، وأنه مثلا صاحب فضل اكتشاف القدرات الكوميدية عند شويكار، وممثلين كبار مثل فؤاد المهندس ومحمد عوض وأمين الهنيدى وعادل إمام والضيف أحمد، كانت قمة تألقهم فى أعمال مسرحية من إخراج مدبولى. لا أتفق مع من يصف هذا أسلوب مدبولى كمخرج بأنه "فارص صريح"، الفارص تعبير هزلى يعتمد على المبالغة الحركية واللفظية بشكل متطرف وحر، وبصورة تشمل تقريبا كل مناطق العرض المسرحى من بدايته حتى نهايته، ولكن ما نراه فى المسرحيات التى أخرجها مدبولي، و" أنا وهو وهى " مثال ممتاز لها، هو أن مدبولى يختار مشاهد بعينها، لا يصل بها إلى درجة الفارص الصارخ، وإنما يعيد بناءها كاريكاتوريا، ومن خلال أداء حركى وصوتى شديد الانضباط. ورغم هذه الفواصل الكاريكاتورية، التى "تبروز" مناطق بعينها، وتستهلك كل إمكانيات الضحك فيها، صوتا وحركة، إلا أن كوميديا الموقف حاضرة معظم الوقت، وهناك أداء "على الجالس" و "على الواقف" إذا جاز التعبير، والإيقاع لا يفلت أبدا، سواء فى مشاهد المبالغة الكاريكاتورية، أو فى مجال كوميديا الموقف، وفى الحالتين فإن الأداء منضبط جدا، وبدون إضافات، على الأقل فى مسرحية "أنا وهو وهي". هناك بوصلة مدهشة داخل هذا الفنان العظيم تجعله يهذب الفارص ويحوله إلى كارتون متحرك، ويدمجه بمهارة فى إطار نص قوى ومحكم، محدد المعالم والشخصيات. هو ينطلق إذن من النص، ولكنه يترجمه وفق ترمومتر يتناسب مع كل موقف: مثلا الأستاذ دسوقى (عادل إمام)، جعله مدبولى شخصية هزلية كاريكاتورية كاملة فى مشيته وكلامه، ولكن النمساوى (سلامة إلياس)، يضحكنا من منطقة مختلفة تماما، من الجدية الشديدة والتصلب والعنف، بينما تضحكنا شويكار من منطقة ثالثة وهى الدلع والتعالى وسلاطة اللسان. إنه أسلوب تمتزج فيه عناصر كثيرة معقدة، وليس كاريكاتوريا أو فارصا صريحا أو خالصا، ولكن لأن أعلى مناطق الضحك يحققها الكاريكاتور الحركى واللفظي، والنمر المصممة بعناية، مثل مشهد إلباس الطربوش للنمساوى بك، أو مشهد سيطرة ميمو على الخادم البائس (الضيف أحمد) أو حركة تقليد المهندس لشويكار، وهى تطلب منه بأدب أن تنام فى حجرته، فإن كثيرين صنفوا مدبولى كمخرج فارص، لا يعنيه النص، وإنما يُضحك منفصلا عنه، وهو أمر غير صحيح على الإطلاق. لا يعنى ذلك أن مدبولى ضد الفارص الشامل، ولكنه كان كما ذكرت يعيد السيطرة عليه، ويدمجه ضمن أساليب أخرى، هو متمكن أيضا من كل هذه الأساليب كممثل، بدليل أنه يؤدى مشهدا فارصا صريحا، ويضع المكرونة فى جيوبه فى مسرحية "مطار الحب"، فيضحك الجمهور، بينما يبدو أقل الممثلين مبالغة فى الحركة فى "ريا وسكينة"، فيُضحك الجمهور أيضا، وهو واقف أو جالس، بل يجعله المخرج حسين كمال ينطق كلمات مثل " يالهوي" و "يا خرابي" و "شيلو الميتين اللى تحت"، بأقل درجة صوتية، فيحقق أعلى درجة إضحاك بهدوء كامل. هذا المزيج الواضح فى إخراج مدبولى مصدره التأثر بالريحاني، الذى كان يضحك عبر الموقف، وبدون صخب، على الأقل فى مرحلة ما بعد كشكش بك، بنفس الدرجة تقريبا التى تأثر فيها مدبولى بكوميديا شارلى شابلن، وأفلام شارلى الشهيرة فارص صريح، بل إنها مدرسة للأداء الحركة الكاريكاتوري، الذى يستنزف إمكانيات المشهد، كما فى مشهد المصنع فى " العصور الحديثة" أو مشهد اللعب بالكرة الأرضية فى "الديكتاتور العظيم"، ولا أستبعد تأثر مدبولى أيضا بعروض مسرحيات الفرق المتجولة، وعروض الأراجوز، التى تعتمد على الأداء الحركى واللفظى المبالغ فيه. ولتوضيح تأثير شابلن مثلا، علينا أن نستعيد مشهد إلباس الطربوش للنمساوي، ولنتخيل أننا وضعنا برنيطة بدلا من الطربوش، سنحصل فى هذه الحالة على مشهد يمكن أن تراه فى أفلام شابلن الصامتة، بنفس الحركات، والابتكارات المدبولية. يمكنك أن ترصد أثر هذا الكاريكاتير المدبولى المندمج فى النص على إخراج فؤاد المهندس لمسرحية "أنا فين وانتى فين"، ستراه مثلا فى حركات فؤاد، وهو يقلد مشية العروسة لابنته، أو فى مناظرته الشهيرة متباهيا بأصله الوضيع ضد شويكار. ستلاحظ هذا الأثر المدبولى حتى فى إخراج سعد أردش ل "هاللو شلبي"، حيث تظهر النمر الكاريكاتورية بكثرة لافتة، مثل مشهد الطبيب البدين الذى يتدحرج كالبرميل على أرضية المسرح، ونمرة تقليد أحمد زكى للمليجى ولبعض مشاهد المسرحيات التى يمثلها، والمشهد الأشهر الذى يتحول إلى أداء حركى عنيف ومبالغ فيه كلما ذكر أحدهم كلمة "لحمة"، وفى مشهد رقص سهير البارونى ومعها بعض الممثلين كلما ذكرت عبارة "وطلبلى بيرة".. الخ، وهناك فى المسرحية شخصية كرتونية تماما هى "شفيق يزدى الحنين مال الهوى" فى مشيته وهيئة وملابسه العجيبة، وكلها تصرفات حركية جديرة بمسرحية يمثل فيها مدبولي، وقد ظللت لفترة معتقدا أنه هو مخرج "هاللو شلبى" وليس أى أحد آخر، بسبب ظهور سمات مدبولية فى كثير من المشاهد كما أوضحت. مدبولى المخرج المسرحى العظيم لم يُدرس جيدا حتى اليوم، وحضوره الرمضانى والعام سيظل دوما عابرا للأجيال، وموضوعا للكتابة والتأمل.