الأزمة الاقتصادية الخانقة فى بريطانيا والتى جاءت نتيجة لتداعيات الحرب الروسية والأوكرانية، والتوترات السياسية والعسكرية، سرعان ما جاءت أثارها على حكومة ليز تراس رئيسة الوزراء البريطانية حديثة العهد التى تقدمت باستقالتها بعد 44 يوما فقط من تولى مهام منصبها بعد أيام من استقالة وزير الخزانة «كواسى كوارتينغ»، من صفوفها عقب أيام من توليه مهام منصبه، وتولى «جيريمى هانت» مهام الوزارة، وجاءت هذه التطورات الدراماتيكية بسبب خطط الخفض الضريبي، التى أعلنت عنها حكومة تراس، والتى تعد الأكبر فى البلاد، منذ خمسين عاما، بقيمة تقترب من 45 مليار جنيه إسترليني، يتم توفيرها عن طريق الاقتراض الحكومي، دون تحديد كيفية السداد، مما أدى إلى تراجع قياسى فى سعر الجنيه الإسترلينى مقابل الدولار، وبلبلة فى الأسواق وسط أزمة معيشية خانقة دفعت نحو حالة من الغضب الشعبى والتوتر غير المسبوق، تجاوز خبراء الاقتصاد إلى كبار المسئولين العسكريين فى المملكة المتحدة، وترددت أصداؤه فى المؤسسات الدولية حيث أصدر صندوق النقد الدولى بيانًا استثنائيا يحذر من تداعيات خطة ليز تراس على الاقتصاد البريطانى. صفاء مصطفى وتوالت التحذيرات من وسائل إعلام عالمية ومسئولين كبار فى الولاياتالمتحدةالأمريكية من بينهم الرئيس «بايدن» من مخاطر «سياسة المنافع المؤقتة للفقراء» وتبعات سياسات الخفض الضريبى التى تنتهجها حكومة تراس. وأمام هذه التطورات لم تجد «ليز تراس» التى تواجه مطالبات بالاستقالة ليس فقط من قبل أحزاب المعارضة بل أيضا من حزبها «حزب المحافظين» سوى الاستقالة، لتسجل أقصر فترة رئاسة وزراء فى تاريخ المملكة المتحدة الحديث، عقب خطة اقتصادية كارثية وسريعة التراجع أدت إلى انخفاض الجنيه الإسترلينى ودخول البلاد فى حالة من الفوضى، جاءت مصحوبة بانتقادات شديدة تجاوزت الداخل البريطانى إلى المؤسسات الدولية وفى القلب منها صندوق النقد الدولى، ومسئولين دوليين. أسباب الاستقالة وآخر المستجدات ترجع أسباب استقالة «ليز تراس» بحسب وسائل الإعلام البريطانية والعالمية إلى زيادة حدة الانتقادات الداخلية والدولية الموجهة إلى خطة «ليز تراس»، ناجمة عن حالة الاضطراب الشديدة فى الأسواق وتراجع قيمة الجنيه الإسترلينى مقابل الدولار، وعزوف المستثمرين عن شراء السندات البريطانية «الحكومية» مما أدى إلى تدخل البنك المركزى البريطانى لشراء سندات حكومية قيمتها 65 مليار جنيه إسترلينى، ومن أبرز التأثيرات السلبية لخطة تراس لتخفيض الضرائب أنها أدت الى خسارة وزارة الخزانة البريطانية ما قيمته 45 مليار جنيه إسترلينى إعفاءات ضريبية للأغنياء، وإعفاء شركات النفط من الزيادة الضريبية رغم ما تحققه من أرباح، مما أدى إلى رفض وغضب جميع الأحزاب البريطانية التى اتفقت فى وصفها للخطة بأنها تحافظ على مصالح الأثرياء على حساب الفقراء والطبقة الوسطى. وبخلاف هذه الانتقادات، جاءت تحذيرات شديدة من صندوق النقد الدولى وعدد من المؤسسات الدولية وكبار القادة والمسئولين من مخاطر الخلل الجوهرى فى خطة تراس وهو أن الخطة تعتمد على استدانة مبلغ 200 مليار دولار سنويًا، جزء منها يتضمن 65 مليار دولار قيمة سندات خزانة يقوم بشرائها البنك المركزى البريطانى «بنك انجلترا» ومبلغ 120 مليار دولار ديون من صندوق النقد الدولى مما أثار انتقادات شديدة من جانب صندوق النقد الدولى والمركزى البريطانى وهو ما توالت معه تحذيرات كبار المسئولين الدوليين والمسئولين داخل بريطانيا من مخاطر غياب التخطيط الاستراتيجى لسياسات تراس الاقتصادية. جاءت استقالة تراس بعد اجتماع مع برادى، الذى يترأس لجنة عام 1922 – مجموعة النواب المحافظين الذين ليس لديهم مناصب وزارية والذين يمكنهم تقديم خطابات الثقة برئيس الوزراء، وخلال الساعة التى استمر فيها الاجتماع، وصل عدد النواب الذين طالبوا علنًا بتنحى تراس إلى 17 عضوا، كما وصل عدد الذين كتبوا رسائل إلى برادى يعبرون فيها عن عدم ثقتهم برئيسة الوزراء إلى أكثر من 100 بحلول يوم الخميس الموافق 20 أكتوبر 2022 الذى شهد استقالة تراس من رئاستى وزراء بريطانيا وحزب المحافظين على إثر هذه التحركات. ومن المقرر أن يكمل الحزب انتخابات القيادة فى غضون الأسبوع المقبل، بدلا من فترة الشهرين المعتادة، وصرح جراهام برادى، السياسى المحافظ والمسئول عن أصوات القيادة والتعديلات، بحسب شبكة «سى إن بى سى» «CNBC» الأمريكية أنه يبحث حاليا كيفية أن يشمل التصويت أعضاء البرلمان المحافظين وأعضاء الحزب الأوسع. وبحسب ما ذكرته شبكة «سى إن بى سى» «CNBC» وأكدته وسائل إعلام عالمية دعت أحزاب المعارضة، حزب العمل والحزب الوطنى الاسكتلندى والديمقراطيون الأحرار، إلى إجراء انتخابات عامة فورية عقب استقالة تراس. وقال زعيم حزب العمال كير ستارمر، «لقد أظهر حزب المحافظين أنه لم يعد لديه تفويض للحكم». وبحسب ما ذكرته وسائل الإعلام العالمية فإن «ريشى سوناك» وزير المالية فى حكومة جونسون والمنافس الأقوى لتراس خلال الانتخابات الأخيرة مرشح لخلافة تراس، إلى جانب «جيرمى هانت» وزير المالية فى حكومة تراس المستقيلة، والمنافس القيادى الآخر «بينى موردونت»، ووزير الدفاع بن والاس ورئيس الوزراء السابق بوريس جونسون. الاعتذار وأمام الإصرار والتهديدات الكبيرة والخسائر الفادحة التى لحقت بالاقتصاد البريطانى فى أعقاب الإعلان عن الخطة الاقتصادية لحكومة ليز تراس، اضطرت تراس لإلغاء خططها الموسعة لخفض الضرائب والشروع بدلا من ذلك فى برنامج «صعب للغاية» لخفض الإنفاق العام. وقدمت رئيسة الوزراء البريطانية المستقيلة «ليز تراس» اعتذارا للشعب البريطانى عما تسببت فيه من الخطة من تهديد للاستقرار، فيما التزمت تراس الصمت فى البرلمان، بينما قام وزير ماليتها الجديد «جيريمى هانت» بالإطاحة ببنود أجندتها الاقتصادية التى اقترحتها قبل أقل من شهر، والتى أدت إلى تراجع حاد لسوق السندات لمستويات قياسية جعلت بنك إنجلترا مضطرا للتدخل لحماية صناديق التقاعد من الانهيار. وقالت تراس لهيئة الإذاعة البريطانية «بي . بي . سى» «أريد أن أتحمل المسئولية وأقول إننى آسفة على الأخطاء التى ارتُكبت». الاعتراف بالأخطاء ومن جانبه أقر وزير الخزانة البريطانى الثانى «جيريمى هانت» فى حكومة تراس المستقيلة بالأخطاء التى ارتكبها سلفه وألمح إلى أنه قد يلغى الكثير من خطط خفض الضرائب من أجل تحقيق الاستقرار فى البلاد بعد أسابيع من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية. وحذر هانت، من قرارات صعبة قادمة، مشددًا على أن الضرائب قد ترتفع ومن المرجح أن تتقلص ميزانيات الإنفاق العام خلال الأشهر المقبلة. انتقادات موسعة الانتقادات الموجهة إلى السياسات الاقتصادية لرئيسة الوزراء البريطانية المستقيلة بصفة عامة وخطتها لمواجهة الأزمات الراهنة بصفة خاصة، تجاوزت الأحزاب البريطانية والمؤسسات الدولية ووسائل الإعلام العالمية إلى دبلوماسيين وقادة عسكريين وبريطانيا، ورؤساء دول من بينهم الرئيس الأمريكى «جو بايدن». أبرزت صحيفة ديلى ميل، البريطانية التى سبق أن أشادت بخطة تراس، فى صدر صفحتها الأولى مغادرة رئيسة الوزراء البرلمان وكتبت عنوانا «فى المنصب لكنها ليست فى السلطة»، بينما وصفتها صحيفة صن الداعمة بأنها «شبح رئيسة وزراء». وقال جيمس هيبي، الوزير المعنى بالقوات المسلحة، إنه لن يكون مسموحا لتراس بارتكاب المزيد من الأخطاء. مخاطر جسيمة وذكرت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية أنه من المرجح أن يرجئ البنك المركزى البريطانى تنفيذ خطة لبيع سندات حكومية بالجنيه الإسترلينى بسبب التقلبات الشديدة فى الأسواق، والمخاطر التى دفعت بها تداعيات الإعلان عن خطة «ليز تراس» والاعتذار عنها وما أحدثه من فوضى فى الأسواق البريطانية وتراجع الإقبال على الجنيه الاسترلينى فى الأسواق العالمية. السياسات النقدية بحسب بيان صريح استثنائى صدر مؤخرًا عن صندوق النقد الدولى نشرته وسائل إعلام عالمية، حذر صندوق النقد الدولى من أن حزمة تراس يمكن أن تكون «متعارضة» مع السياسة النقدية لبنك إنجلترا المصممة لخفض الارتفاع الشديد لمعدلات التضخم فى البلاد، وحث إدارة «تراس» على إعادة النظر فى السياسات الاقتصادية. تحذيرات صندوق النقد وحذر صندوق النقد الدولى فى بيانه من أن السياسات الجديدة التى تنتهجها المملكة المتحدة، وخاصة التخفيضات الضريبية، من شأنها زيادة وتعميق عدم المساواة فى البلاد، مؤكدا أن هذه السياسات ستفيد أصحاب الدخل المرتفع. وأضاف أنه يمكن تحويل ما يقرب من نصف المكاسب المالية من الحزمة إلى أغنى 5٪ فى بريطانيا، وفقًا لتقدير نُشر فى نهاية الأسبوع الماضى من قبل مجموعة مكافحة الفقر The Resolution Foundation، فى حين أن 12٪ فقط من الفوائد ستذهب إلى النصف الأفقر من مواطنى المملكة المتحدة. مخاطر وتداعيات أوضح صندوق النقد الدولى أنه بالنظر إلى ضغوط التضخم المرتفعة فى العديد من البلدان، بما فى ذلك المملكة المتحدة، فإن الصندوق لا يوصى بحزم مالية كبيرة وغير مستهدفة فى هذا المنعطف. ولفت إلى أن مؤشرات أداء الاقتصاد البريطانى والتوجهات الاقتصادية لمواجهة الأزمة تشبه الأزمة المالية التى ضربت المملكة المتحدة فى عام 1976، عندما وصل الجنيه الإسترلينى إلى مستوى قياسى منخفض بعد سنوات من زيادة الإنفاق الحكومى فى ظل خطة «الإنفاق من أجل النمو» التى وضعها وزير المالية آنذاك «أنتونى باربر»، حيث أدت سياسات باربر إلى عدة سنوات من النمو فى المملكة المتحدة، إلا أنها أدت فى النهاية إلى زيادة التضخم السنوى إلى 27٪ وتسببت فى انهيار العملة. انتقادات وزيرة التجارة الأمريكية «جينا ريموندو» كانت قد انتقدت سياسات تراس الاقتصادية، مشددة على أن إصرارها على خفض الضرائب لن يعزز النمو، فيما أكد «لورانس سمرز» وزير الخزانة الأمريكى الأسبق على أن المملكة المتحدة تنتهج السياسات الاقتصادية الأسوأ على مستوى الاقتصاديات الكبرى. ويتفق مع هذه الانتقادات كل من الملياردير «راى داليو» ووزير الخزانة الأمريكى السابق «لارى سمرز» الذى أكد أن المملكة المتحدة تنتهج سياسات اقتصادية تعامل الاقتصاد البريطانى على أنه أحد اقتصاديات الأسواق الناشئة. فخ التضخم ومن جانبه أوضح «نورييل روبينى» الخبير الاقتصادى الشهير أن اقتصاد المملكة المتحدة كان يتراجع إلى معدلات «السبعينيات» ويمكن أن يقع فى فخ التضخم المصحوب بالركود مما يجبر البلاد للمطالبة بخطة إنقاذ من صندوق النقد الدولى. وفى وقت سابق، صرح «بيتر شاتويل»، رئيس استراتيجيات التداول الكلى العالمية فى مجموعة ميزوهو للأوراق المالية Mizuho Securities، ل شبكة بلومبرج الأمريكية أن الوضع الاقتصادى الحالى فى المملكة المتحدة يذكره بسبعينيات القرن الماضى. سياسات خاطئة وصف الرئيس الأمريكى «جو بايدن» السياسات الاقتصادية لتراس بالخاطئة مؤكدًا فى تصريحات إعلامية تعتبر خارجة عن المألوف أن الارتباك الاقتصادى الذى أعقب إعلان «ليز تراس» عن الميزانية المصغرة كان متوقعا، من جانب العديد من المختصين والمؤسسات الدولية. وجدير بالذكر أن الرئيس بايدن من المعارضين لسياسة خفض ضرائب كبار الأثرياء، وهذه السياسة فى قلب الخطة الاقتصادية لتراس، التى ترى أن تخفيض ضرائب الشركات والأثرياء سوف يدفع عجلة النمو، مما يتيح تدفق الثروات باتجاه جميع فئات المجتمع.