كتبت القصائد مدحا فى شجاعته.. ووضعت الكتب رصدا فى سيرته، إنه الإمام الحسين بن فاطمة رضى الله عنها، فما أن يحل الثلاثاء الأخير من شهر ربيع الثانى إلا ويقيم المصريون احتفالا ليس بمولده بل بقدوم رأسه الشريف، ودفنها بين ثراها، بمجرد أن تطأ قدمك الساحة الحسينية يهولك منظر طوفان البشر فى كل مكان.. كأن التاريخ لم يتغير بعد عهد الفاطميين الذين استقبلوا رأس الشهيد بالزينة والأفراح، وما أن تتخيل هذه المشاهد، إلا وأن تفيق على أصوات متداخلة من مناد على مراجيح للأطفال أو أن تصطدم بعربات حب العزيز والحمص وتلال من الحلويات التى لا تلقى رواجا إلا فى هذه الأيام، وما أن تسوقك قدماك بطريقة الدفع اللاإراديه لتلقى بك فى سرادق لإحدى الطرق الصوفية لتسمع ذكرا ومديحا وأيضا أغانى وربابة ومواويل.. وهنا تتداخل الأصوات.. حمص حمص.. حمص.. الله الله الله.. طعمية.. اللوز.. عجمية.. أرجوز.. مدد مداااااد.. تماما كما صورها صلاح جاهين فى الليلة الكبيرة.. أنت فى المولد.الزحام يرسم صورة عبثية لساحة الإمام لغير المعتاد على هذ الجو فقد ترى بعض السيدات نائمات وأخريات يقمن بطهى الطعام بأون ضخمة يظهر عليهن الإرهاق والتعب وعدم النظافة، ولكن هذه التفاصيل لا تشغل بال المريدين، فكل همهم سد جوعهم بينما تقف أمام سيدات أخريات يرسمن الحنة، وأخريات مسنات يبعن لعب الأطفال.. وتلمح بين الحين والآخر رجالًا يتمايلون مع الذكر وشبابًا يرقصون على أغان شبابية، أو إنشاد دينى. فالدخول إلى ساحة الحسين يعد مغامرة خاصة للسيدات، فإذا كان حظك عاثرا واصطحبت زوجتك ففى هذا الحالة تحتاج إلى حراسة مشددة وامتلاك الجرأة على الاقتحام وسط تلك الأمواج البشرية العشوائية. مشاهد توافد الطرق إلى الساحة الحسينية قبل الليلة الكبيرة بأيام هو مشهد يوحى بمهرجان كرنفالى رائع للغاية، فكل طريقة صوفية تسير فى مجموعات منظمة فى السير تحمل راياتها الدالة عليها سواء كانت رفاعية أو برهامية أو جعفرية، أو ادريسية أو غيرها يتقدمها نائب الطريقة، وخلفه اتباعه مرتدين زيا موحدا، ويضعون على صدورهم أوشحة، مرددين «ترانى راجيا اياك فمتى التلاقى لقلوبنا يرتاح.. وثياب البعد لما فصلت اسبلت عليا وشاحا»، وما أن تظهر الساحة أمامهم وترى شيخ الطريقة يظهر ليتولى زمام السير ويعلو الهتاف بأذكارهم ليكون شيخهم أول من يدخل الساحة، وتحتل الطرق الكبيرة الأماكن المميزة، لضريح الحسين، أما الأقل عددا وإمكانية فمصيرها الشوارع الخلفية للحسين. سرادقات وخيم تختلف نوعية الخدمة من طريقة لأخرى، ومن سرادق لخيمة، فكل طريقة لها ظروفها المالية، فحين تحط بك أقدامك فى خيمة الطريقة الرفاعية أو الجعفرية، فستجد صنوفا من الطعام والشراب يقدم لضيوفه واتباعه،وقد نشاهد شيخ الطريقة وقد ارتدى بدلة عليها حلة و «كرافت»، بينما عدد كبير من مشايخ الطرق لا يستطيع توفير مأكله الخاص به. وفى الخدمة وفى أثناء الكلام وبعد الشاى والعزومة بالطعام، تعالت الأصوات.. الحضرة بدأت، رجال يبدأون الذكر، جالسين على الركبتين بشكل دائرى وفى المنتصف يجلس شيخ الحضرة الذى يفتتح الذكر بقراءة «الفاتحة»، ويتبعه فى كل كلمة الحاضرون ، ثم يقفون فى نفس الشكل الدائرى وتعلو الأصوات بترديد لفظ الجلالة، حتى تختلف نبرة الصوت وتضيع معها معالم الكلمات، ولما سألنا قال الشيخ قال: «إنها لحظات توحد وفناء فى الذكر والدعاء». على باب أحد السرادقات حذرت طريقة الجعفرية، الضيوف من الحرص على تأمين حقائبهم من السرقة قائلا «احنا مش مسئولين عن السرقة»، فخارج السرادق النقيض تماما، فتجد غناء يصل أحيانا لحد الخلاعة ورقص و«ستات نايمة» وأطفال وشباب تحاول خطف حقائب النساء. أردنا أن نأخذ قسطا من الراحة، فدلفت لخيمة بها عدد قليل من الناس، أغلبهم يأخذ قسطا للراحة للسهر لليلة الكبيرة، فقابلنا ببشاشة، رجل سبعينى العمر، قال: إنه من محافظة قنا، وأنه مواظب على حضور الليلة الكبيرة منذ ما يقرب من أربعين عاما مضت،.. فقلت له لماذا الإصرار على هذا التجلى؟.. فرد قائلا: «أن زيارة سيدنا الحسين شرف وبركة»، ونظرت لرجل مسن آخر بجواره وسألته سؤالا، هل تستطيع أن تصف لى حبك لزيارة الحسين والاحتفال بالليلة الكبيرة؟، فقال: حب آل البيت جزء من تكوينى، فأنا انتسب إلى آل البيت، وينتهى نسبى إلى سيدنا الحسين، لذا فقد رزقنى الله الذرية من الذكور والإناث اسميتهم جميعا أسماء آل البيت، فأنا انتظر الليلة الكبيرة لجدى الحسين من العام للعام. الضريح مسرحا وما أن استطعت أن تفلت من الزحام وتدخل المسجد لزيارة الضريح، لتجد أعدادًا كبيرة من الناس مستلقاة على الأرض فى ثبات عميق، وآخرين يقيمون حضرة، وعجائز اتكأن فى ظهر أعمدة المسجد العتيقة لقراءة القران أو الأوردة، وما أن تقترب من باب الضريح تعلون أصوات متضاربة ما بين «الزغاريد» و «النحيب والبكاء» وما أن يتجسد أمامك الضريح لترى من يجهش بالبكاء على جرم اقترفه أو أن يقبل شخصا عتبات الضريح أو أن رجلا يمسح وجهة ابنه بالستائر التى تزين فهذه الأفعال بها شىء من الجنون وتفقد الزائر لضريح الحسين الاستياء فمشهد الضريح يجسد كوميديا سوداء كالتى يكون فيها البكاء والضحك فى آن واحد. شهادات حال مقامات الأولياء والقديسين والاحتفال بها لم يكن فقط هو شاغل بال المصريين بل كان تساؤل الزائرين الأجانب وسفرائهم فقد أثبتت صدق هذه الصورة ما رصده كتاب «الموالد والتصوف فى مصر» لنيكولاس بيخمان، سفير هولندا الأسبق لدى مصر وقد رسم المؤلف كتابه يحمل تفاصيل رحلته فى موالد مصر من شمالها فهو لا يدين ولا يسخر ولا يعترض، بل يكتفى بالرواية بلغة مشوقة عن عالم مترامى الأطراف ربما لا يعرف المصريون حقيقته. إذ يرى الموالد طقساً خاصاً قد يجذب الجميع، وقد ينفر منه البعض «ليس على المرء أن يكون صوفياً لكى يتوسل طلباً للعون.. من الجائز أن تكون صوفيا دون إيمان بكرامات الأولياء أو حتى الاحتفال بموالدهم. أمام الثوار وإذا كان لدى الزائرين الأجانب انطباعات عن الليلة الكبيرة للإمام الحسين وأضرحة أولياء الله الصالحين فإن المستشرقين لم يغب عنهم تدوين حب المصريين للأضرحة فهناك مفكرون استطاعوا أن يستلهموا من شخصية الإمام الحسين التى لا تعرف الملايين من المصريين العاشقة له سيرته - فقد رأوا حياته وجهاده وثورته، وكيف استلهموا منها معانى الحرية كأقدس المقدسات الإنسانية، فى حين لم ير المسلمون من الحسين إلا «الليلة الكبيرة» وما فيها ومن فيها!! فمثلا يقول الزعيم الهندى غاندى:«لقد طالعت بدقة حياة الإمام الحسين، شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر فى صفحات كربلاء واتضح لى أن الهند إذا أرادت إحراز النصر، فلا بد لها من اقتفاء سيرة الحسين الثائر»، وقال أيضا «تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر. ويقول المستشرق الإنجليزى السير برسى سايكوس متحدثا عن الحسين ومن معه فى ثورتهم على يزيد: «حقاً إن الشجاعة والبطولة التى أبدتها هذه الفئة القليلة، على درجة بحيث دفعت كل من سمعها إلى إطرائها والثناء عليها لا إرادياً. هذه الفئة الشجاعة الشريفة جعلت لنفسها صيتاً عالياً وخالداً لا زوال له إلى الأبد».. ويقول مدللا على قيمة ثورة الحسين وبعدها عن الأهداف السلطوية: «إن كان الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية، فإننى لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟ إذن فالعقل يحكم أنه ضحى فقط لأجل الإسلام... وقال: الإمام الحسين وعصبته القليلة المؤمنة عزموا على الكفاح حتى الموت وقاتلوا ببطولة وبسالة ظلت تتحدى إعجابنا وإكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا. ويقول الباحث الانجليزى جون أشر: «إن مأساة الحسين بن على تنطوى على أسمى معانى الاستشهاد فى سبيل العدل الاجتماعى». ويقول المستشرق الفرنسى لويس ماسينيون: «أخذ الحسين على عاتقه مصير الروح الإسلامية، وقتل فى سبيل العدل بكربلاء». ويقول المفكر المسيحى انطوان بارا: لو كان الحسين منا لنشرنا له فى كل أرض راية، ولأقمنا له فى كل أرض منبرا، ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين.» إنها إذن قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية التى يثور من أجلها الثائرون فى كل عصر، والتى جعلت من الحسين بحق.. إمام الثوار.