59 عاما مرت على العدوان الثلاثى على مصر.. 59 عاما مرت ونسى المصريون البطولات التى قدمتها مدينة بورسعيد الباسلة لصد عدوان ثلاث دول غازية عام 1956 هى إنجلترا وفرنسا وإسرائيل تكتلوا لاحتلال مصر عن طريق بورسعيد واستطاعت هذه المدينة الصغيرة أن تصد هذا العدوان بإمكانيات ضعيفة وبسيطة صدوا بها دبابات وطائرات وضربوا أروع صفحات النضال والتضحية والفداء.. 59 عاما مرت ولا يتم ذكر هذه البطولات إلا على صفحات البورسعيدية فقط أو فى مناسبات معينة.فى السطور القادمة نكشف عن إحدى هذه البطولات والحكايات التى جاءت فى شهادة موثقة موجودة فى المتحف الحربى على لسان القنصل الإيطالى، عنوانها «اشهد أيها العالم.. فى أحلك ساعات المعركة حمينا الأجانب بدمائنا»، وتنفرد أكتوبر بنشرها. الحكاية التى نحن بصددها هى حكاية جندى البوليس السعيد محمد حمادة الذى استشهد أثناء العدوان الثلاثى على مصر أمام القنصلية الإيطالية بشارعى 23 يوليو وصلاح سالم والمكلف بحراستها ورفض طلب القنصل بالاحتماء بها. تبدأ تفاصيل الحكاية بشهادة مراسل جريدة «دومنيكا دلكوبر» الإيطالية فى بورسعيد أثناء العدوان الثلاثى عام 1956 على أرض مصر ببسالة وشجاعة الجندى المصرى خلال هذه الحرب.. حيث يقول الصحفى الإيطالى كنت بالمدينة عندما تحولت سماؤها وأرضها إلى ألسنة من اللهب وأزيز رصاص ودمدمة قنابل حارقة، وخفت على عمرى فى هذه الأيام الرهيبة وأسرعت إلى دار القنصلية الإيطالية لأحتمى بها. لمحت على باب القنصلية، والكلام للصحفى الإيطالى، جنديا مصريا مكلفا بحراسة القنصلية يقف فى ثبات وعلى وجهه ملامح جامدة، كان الرصاص يمرق من حوله والشظايا والقنابل تنفجر على بعد أمتار منه.. وأشفق القنصل الإيطالى على الحارس المصرى البطل فخرج إليه وطلب منه أن يدخل ليحتمى من الخطر بمبنى القنصلية، وأنه يعفيه من مهمة الحراسة، ولكن الجندى رفض أن يتخلى عن واجبه وقال للقنصل الإيطالى، هنا مكانى ولن أغادره أبدا. وأضاف الصحفى: النيران اشتدت بعد ذلك وارتفعت ألسنة اللهب فى كل مكان وانمحت أحياء بأكملها على أرض بورسعيد وسقط الشهداء بالمئات، حرجنا نتفقد أثار المعركة، وعلى باب القنصلية تسمرت أقدامنا فقد كان المشهد قاسيا للجندى المصرى البطل، وقد تمدد جسده على الأرض بلا حياة وسط بركة من الدماء ويده اليمنى تقبض فى إصرار على سلاحه. إنها شهادة من الأجانب على بطولة وفداء وتضحية وشرف الجندى المصرى على مر العصور والأزمان، وللجندى الشريف الشهيد السعيد حمادة الذى قتل يوم الثلاثاء 6 نوفمبر 1956 خلال العدوان الثلاثى على أرض مصر. حكاية الشهيد السعيد حمادة جاءت ضمن البطولات التى ضمها الأطلس التاريخى لبطولات شعب بورسعيد عام 1956 الذى أعدته لجنة التاريخ والتراث بمحافظة بورسعيد. يقول الجزء الرابع من الأطلس: «لازلنا نقص العدوان فى يوم الإثنين 5 نوفمبر عام 1956 وهو من أصعب الأيام التى مرت على بورسعيد.. ويحكى محمد رياض محافظ بورسعيد فى ذلك الوقت فى مذكراته ما يلى : «قبل ظهر 5 نوفمبر عام 1956 وفى غرفة عمليات الدفاع المدنى اتصل بى القائم مقام حسن رشدى– مفتش المباحث العامة– ليبلغنى أن موظفا مصريا بهيئة إدارة القناة قد اتصل به تليفونيا من وابور المياه الكائن بجهة الرسوة التى تقع فى الجهة القبلية من المدينة وأبلغه أن قائد قوات البراشوت التى احتلت هذا الموقع يرغب فى الاجتماع بلجنة لبحث مسائل تستهدف تخفيف حدة الغارات الجوية وتفادى إصابة المدنيين.. وقد أجبته أن هذا الطلب مرفوض من جانبنا.. وكان رد القوات المعتدية على هذا الرفض مهاجمة مبنى المحافظة بقنابل الطائرات وألقت اثنتى عشرة قنبلة. ثم تحولت الطائرات بعد ذلك إلى التحليق فوق غرفة عمليات الدفاع المدنى.. فاضطررت إلى مغادرتها وانتقلت مع السيد مدير عام البلدية والسيد الحكمدار وبعض كبار الضباط إلى إدارة البريد وقضينا ليلة هناك». عند مطلع الفجر بدأ السلاح الجوى البريطانى والفرنسى فى قصف المدينة بطريقة مركزة وبعدها قام الأسطول بقصف المدينة. فتم تدمير حى المناخ بالكامل وأحرقت ودمرت منازل حى العرب على امتداد شوارع توفيق وعبادى وعباس فشبت الحرائق وانهارت المبانى على سكانها واختلطت جثث الشهداء بأنقاض المبانى– وكان أكبر الشهداء سنا الحاج حسن مصطفى القاضى الذى استشهد فى ذلك اليوم بشارع توفيق على أثر تهدم أنقاض منزله عليه– وفى تمام الحادية عشر صباحا بدأ إنزال القطع البرمائية لاحتلال الشاطئ حاملة رجال الكوماندوز البحريين وقد ظهر على معدات تلك الحملة الحرف اللاتينى H نسبة إلى كلمة HUSSARS أى الفرسان.. وبعد ذلك تبعتها البعابع المحملة بالدبابات وذلك تحت ستار سحب الدخان السوداء الكثيفة المتراكمة على الشاطىء، حيث استغل العدو ذلك الدخان فى إنزال كتيبة من القوات البحرية الإنجليزية وأورطة دبابات. ولم يمكن صد هذا الهجوم الهائل بسبب تدمير بطاريات المدفعية الساحلية كما اقترب الأسطولان البريطانى والفرنسى من رصيف دى ليسبس وأنزلت البعابع الدبابات السنتريون الضخمة والمصفحات إلى المدينة من جهة حى الإفرنج عند رصيف الميناء من نقطتين الأولى عند كازينو بالاس والثانية عند تقاطع شارع السلطان حسين ومحمد محمود وعند النقطة الثانية تخفى رجال المقاومة فى زى رجال الإسعاف وأمطروهم بوابل من الرصاص وقام الإنجليز باحتلال جميع عمارات طرح البحر بعد طرد سكانها كما استولوا على المدارس والفنادق داخل المدينة وقد شوهد اشتراك قطع حلف الأطلنطى فى ذلك الهجوم البحرى. وقد تقدمت قوات المظلات التى هبطت فى مطار الجميل على الساحل والتقت القوتان تتقدمهما الدبابات ورفعت على أبراجها العلمين المصرى والروسى لخديعة الشعب البورسعيدى فالتف حولها المواطنون مهللين وفجأة أطلقت مدافع هذه الدبابات النار عليهم ثم احتلت بعضها الشوارع والميادين، بينما اتجه البعض الآخر إلى كوبرى الرسوة وتبع ذلك قوات العدو من المشاة التى أخذت تتقدم نحو شارع محمد على وكانت تنتظرها فوق أشجار حديقة الباشا أفراد المجموعة الثانية للفدائيين فقامت بفتح نيرانها فقضت تماما على تلك القوات المتقدمة.. ثم انتقل أفراد تلك المجموعة إلى شارع عبادى، فجاءت قوات مشاة بريطانية أخرى وقامت بإطلاق نيرانها على أشجار حديقة الباشا ظنا منها بوجود أفراد المقاومة الشعبية أو جنود مصريين أعلى تلك الأشجار، وتحول القتال إلى شارع عبادى، حيث دارت معارك بين الفدائيين والقوات المعتدية ظهرت فيها البطولات النادرة لأبناء هذا الشارع، حيث استشهد الشقيقان يسرى ووجدى بخيت أسفل بواكى هذا الشارع. وامتد عدوان تلك القوات الغازية إلى الشيوخ والأطفال والنساء الذين تهدمت منازلهم ولجأوا للجامع العباسى فاقتحموا الجامع وقتلوا الكثير بحثا عن الفدائيين. وقد ترتب على القصف الجوى وتدمير المنازل تشريد ما يزيد على خمسة آلاف أسرة بلا مأوى. ومن بطولات هذا اليوم أيضا التى تدل على تضافر قوات الشعب والجيش والبوليس هو استشهاد جندى البوليس السعيد محمد حمادة أمام القنصلية الإيطالية بشارعى 23 يوليو وصلاح سالم والمكلف بحراستها ورفض طلب القنصل بالاحتماء بها. هذا ما ذكره الأطلس التاريخى لبطولات شعب بورسعيد عن الشهيد السعيد حمادة ولكن أحد أقاربه من الشباب ويدعى على عبدالحق حكى لنا الحكاية بشكل آخر حيث قال: «كانت حراسته عند أول نخلة أمام القنصلية الإيطالية فى نهاية شارع صلاح سالم و23 يوليو أمام الكاتدرائية، واشتدت الحرب عن آخرها حتى بلغت الوطيس، تأججت واشتعل، وليس فى الشوارع أحد.. الكل يجرى هنا وهناك، بينما السعيد حمادة جندى البوليس ظل واقفا كالأسد يحمى العرين، وعلى مقربة منه جندى القوات المسلحة. القنصل الإيطالى خرج مع شدة ضرب القنابل، وعز عليه أن يترك السعيد وحيداً فى الشارع وسط النار، حاول القنصل أن يشده من يده.. فرفض السعيد أن يذهب مع القنصل ويترك خدمته فى الشارع ويترك الحراسة. أمسك القنصل ثانية بالسعيد يشده إلى داخل القنصلية فقال له السعيد: «أنا لا أستطيع أن أترك خدمتى وأختبئ داخل القنصلية.. فأنا ملتزم بحراستى». اضطر القنصل أن يترك السعيد ويدخل القنصلية وقلبه يتحسر عليه وسط النار، وأصيب السعيد وهو يدافع عن هذه البقعة من أرض وطنه الغالى بورسعيد، وكذا سقط زميله فى الكفاح جندى القوات المسلحة. يضيف على: «السعيد حمادة هو الأخ الأكبر للسياسى المخضرم (الرفاعى حمادة)، افتقدته أسرته وظلوا يبحثون عنه فى كل الأماكن، ولكن دون جدوى، وعلمت الأسرة بالصدفة بخبر استشهاده وتأكدوا من الخبر، وعلم والده باستشهاده بجوار القنصلية فراح يسأل من فى القنصلية، وعرف الأب بمكان استشهاد الابن، فتوضأ وصلى ركعتين فى مكان استشهاده. الغريب فى القصة أن القنصلية الإيطالية كان لديها كاميرا سينما تصور الأحداث والقنابل والنار فى هذه المنطقة فصورت دم الشهيد يسيل على الأرض، وظهرت فجأة ثلاث(نعجات) لونها أسود راحت (تلحس) دم الشهيد من على الأرض.. ثم انزوت من الشارع الآخر. ثم اختفت ولم يراها أحد.