أستعير من كاتبنا العظيم الراحل الأستاذ أحمد بهاء الدين عنوان كتابه الجميل «أيام لها تاريخ».. فلم أجد عنوانا أكثر مناسبة منه لما أكتبه عن مجلة أكتوبر وهى تحتفل ببلوغها ال 39 عاما وتبدأ عامها ال 40. الأيام التى أحكى عنها يعرفها أبناء جيلى الذين عاصروا مولد أكتوبر وشهدوا غلافها الأول يتألق فى يد باعة الصحف والمجلات قبل أن تتخاطفه أيدى القراء. وليس هدفى من كتابة هذه الحكايات أن أنعش ذاكرة أبناء جيلى فقط.. وإنما أكتبها أيضا للأجيال التى جاءت بعد جيلى وتعاقبت لكى يعرفوا تاريخ مجلتهم.. ذلك أننى مؤمن بأن من لا يعرف تاريخه لا مستقبل له!وأبدأ بالطبع بحكاية أول عدد.. نحن الآن فى شهر أكتوبر من عام 1976.. بالتحديد فى الأسبوع الأخير من الشهر.. كان العدد الأول على وشك الصدور بعد أن حدد الأستاذ أنيس منصور رئيس التحرير والذى نعتبره جميعا بمثابة الأب الروحى للمجلة يوم 31 أكتوبر لصدور عددها الأول. كانت مكاتب المجلة التى تشغل الطابقين السابع والثامن من مبنى دار المعارف العريق تبدو وكأنها خلية نحل.. الكل يروح ويجىء والكل يترقب، لكن لا أحد يعرف على وجه التحديد لا موعد صدور العدد الأول من المجلة ولا شكلها ولا الموضوعات التى تضمها. كان معظم محررى المجلة من الشبان الصغار الذين لم يسبق لهم العمل بالصحافة، بالإضافة إلى عدد قليل من الصحفيين الكبار الذين حضروا للعمل مع الأستاذ أنيس منصور ومعظمهم من مؤسسة أخبار اليوم.. وكان من الطبيعى أن يكون صدور العدد الأول وشكل غلافه وموضوعاته سرا علينا نحن الشبان الصغار.. وقد استطاع الأستاذ أنيس منصور وكبار معاونيه وطاقم السكرتارية الفنية الاحتفاظ بهذا السر حتى جاءت اللحظة المناسبة فإذا بالعدد الأول بين أيدينا.. كان غلاف العدد يحمل صورة كبيرة لوجه الرئيس السادات وهو يدخن البايب وكان العنوان المهم هو أوراق الرئيس السادات التى كتبها الأستاذ أنيس منصور ورواها الرئيس السادات له.. كنا مبهورين بالعدد وبأنفسنا، خاصة أن الصحف الصادرة يوم صدورنا نقلت عنا بعض الأخبار التى انفردنا بنشرها. واكتملت فرحتنا بالدعوة التى وجهها لنا جميعا الأستاذ أنيس منصور لحضور حفل عشاء فى منزله بالجيزة احتفاء بصدور العدد الأول. وكنت واحدا من المحظوظين الذين اختارهم الأستاذ أنيس منصور كتَّابا للعدد الأول.. وصور لى غرورى أننى أصبحت مشهورا وأن الكل يعرفنى.. صور لى غرورى أننى أصبحت أستاذا لكننى تعلمت بعد ذلك.. أن أكون تلميذا فى مدرسة أنيس منصور.. مدرسة أكتوبر. ??? كان الرئيس فرانكلين روزفلت هو أول رئيس أمريكى يزور مصر وقد قام بزيارتها فى عام 1943 وبعدها فى نفس العام قام بزيارة ثانية ثم قام بزيارة ثالثة فى عام 1945.. بعده قام الرئيس ريتشارد نيكسون بزيارة مصر فى عام 1974.. لكن الزيارة الأهم قام بها الرئيس جيمى كارتر مهندس اتفاقية كامب ديفيد، وذلك فى مارس من عام 1979. كان اهتمام الرئيس السادات بهذه الزيارة كبيرا وكان حريصا على أن يكون هناك استقبال شعبى لائق بالرئيس الأمريكى. وكان من الطبيعى أن تهتم «أكتوبر» بتغطية الحدث وشعرنا باهتمام الأستاذ أنيس منصور بالحدث من خلال سلسلة الاجتماعات المبكرة التى عقدها معنا نحن محررى أكتوبر قبل موعد الزيارة بأسبوعين. تحولت غرفة الاجتماعات الخاصة بالأستاذ أنيس منصور والتى كانت تتوسط مكتبه ومكتب السكرتارية.. إلى ما يشبه غرفة العمليات العسكرية.. خرائط وأوراق وتعليمات وتكليفات لكل محرر ومصور. وجاء يوم الزيارة وانتشرنا جميعا فى الأماكن المحددة لنا محررين ومصورين على امتداد الطريق الذى سيسلكه الرئيس كارتر من المطار وحتى قصر الرئاسة بالقبة.. وعدنا مسرعين إلى مقر المجلة نكتب ما شهدناه وعرفناه.. وكتبنا أوراقا كثيرة وإن كانت تحمل معلومات ضئيلة وأغلب الظن أن الأستاذ أنيس منصور كان يعلم أننا لن نضيف جديدا، فقد كان مسموحا له وحده بدخول القصر الرئاسى وحضور اللقاء بين السادات وكارتر وكل التفاصيل المحيطة بالزيارة.. أغلب الظن أنه كان يعلم ذلك لكنه فيما يبدو أراد أن يعلمنا كيف نخطط ونستعد لتغطية حدث مهم.. ثم إننا تعلمنا منه ما هو أعظم وأهم فقد صدر العدد الجديد من مجلة أكتوبر يحوى ملفا ضخما للزيارة وقع عليه الأستاذ أنيس منصور وتحته أسماؤنا نحن المحررين والمصورين الذين شاركوا فى تغطية الحدث.. مع أن ما كتبه لم يضم حرفا واحدا مما كتبناه.. لكنه حرص على أن يضع أسماءنا بجوار اسمه لكى نتعلم معنى روح العمل الجماعى. ??? روى لنا الأستاذ أنيس منصور جزءا من الحديث الذى دار بينه وبين الرئيس السادات والذى كان من نتيجته توجيه الدعوة لنا نحن محررى مجلة أكتوبر للقاء الرئيس السادات فى منزله بقرية ميت أبو الكوم. قال الأستاذ أنيس منصور للرئيس السادات: أنت صاحب فكرة إنشاء مجلة أكتوبر وأنت من دعمها وساندها، ومن ثم فهى بمثابة ابنتك «البكرية» ومعنى ذلك أن محررى أكتوبر هم أحفادك وليس معقولا ألا تلتقى بأحفادك حتى الآن! وضحك الرئيس السادات ووافق على لقائنا نحن محررى أكتوبر.. واختار منزله بقريته ميت أبو الكوم مكانا للقاء. كانت المرة الأولى التى نلتقى فيها برئيس جمهورية وجها لوجه! وذهبنا مبهورين والتقينا بالرئيس السادات وحرمه السيدة جيهان السادات.. واستمعنا إليه وإلى الأستاذ أنيس منصور ووجه بعضنا أسئلة أجاب عنها الرئيس والتقطنا صورا تذكارية وتناولنا الغداء.. وعدنا إلى مقر المجلة وجلسنا جميعا نتبادل الأحاديث ونسترجع الأحداث.. وفوجئنا بالأستاذ أنيس يغادر مكتبه ويقف بيننا متسائلا: ماذا كتبتم عن اللقاء؟! ولم يرد أحد لأننا لم نكتب حرفا! ويصدر العدد الجديد من المجلة يحمل موضوعا كبيرا عن اللقاء كتبه الأستاذ أنيس منصور، لكنه لم يوقعه باسمه، وإنما وقعه باسم «واحد من أكتوبر». وهكذا تعلمنا الدرس.. تعلمنا ألا ننسى أبدًا أننا صحفيون مهما اندمجنا فى الحدث وكنا جزءا منه! ??? جلسنا فى صالة التحرير نتابع العرض العسكرى يوم 6 أكتوبر من عام 1981. معظمنا كان مشغولا بالكتابة أو بالحديث.. وفجأة يتوقف البث من منطقة المنصة، حيث كان الرئيس السادات يتابع العرض العسكرى احتفالا بذكرى نصر أكتوبر. نستشعر القلق، ثم نفاجأ بأن الأستاذ أنيس منصور يترك مكتبه فى عجالة ويغادر المبنى إلى حيث لا نعلم. عرفنا بعد ذلك أنه ذهب لمستشفى المعادى العسكرى، ثم عرفنا بنبأ اغتيال الرئيس السادات. لم يغادر أحد منا مكتبه.. جلسنا جميعا فى انتظار عودة الأستاذ أنيس منصور.. كنا على يقين بعودته.. وجاء بالفعل.. لكنه وصل متأخرا. كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساء وعلى الفور اجتمع بنا الأستاذ أنيس منصور وراح يحكى لنا متأثرًا تفاصيل حادث الاغتيال.. لكنه سرعان ما نسى تأثره وراح يناقشنا فى الموضوعات التى يتعين علينا تغطيتها. تم تكليفنا بالموضوعات المطلوبة وانصرفنا فى ساعة متأخرة وذهبنا بعد ذلك نسابق الزمن لإعدادها فقد كان باقيا ثلاثة أيام فقط على موعد العدد الجديد. وصدر العدد الجديد الذى نقلت عنه وكالات الأنباء الكثير من الأخبار والموضوعات.. وكانت صورة الغلاف أكثر من موفقة.. صورة أبيض وأسود للرئيس السادات.. صورة مهزوزة بلغة الكاميرا كان مستحيلا نشرها فى أى وقت آخر، لكنها بدت كأنها شبح من العالم الآخر واختارها الأستاذ أنيس منصور لغلاف المجلة بعد وضع بقعة دم عليها كرمز للاغتيال. ويثنى علينا جميعا الأستاذ أنيس منصور.. وأظنها كانت المرة الأولى التى نسمع فيها مديحه! ??? والأيام التى لها تاريخ فى مجلة أكتوبر كثيرة.. لكنها المساحة التى تحكمنا جميعا والذاكرة التى تحاول أن تساعدنا بقدر الإمكان!