فى كل لقاء لى مع الشيخ الشعراوى كنت أحمل جهاز التسجيل أو مفكرة خاصة أسجل فيها الومضات المضيئة التى ينطق بها، ولاشك أن الشيخ الشعراوى كان يتميز بأسلوب خاص جدا.. أسلوب خاص فى الحديث إلى الناس ويبدو فيه تلقائيا يتدفق دون توقف، ويكشف عن أسرار فى آيات الله لم يلتفت إليها المفسرون قبله وكأنها إلهام من الله على قلب مؤمن عاش حياته فى طاعة الله، وكلما جاء شهر رمضان أستعيد ذكرياتى مع الشيخ الشعراوى ويحلو لى أن أصلى الفجر فى الجلباب والعباءة اللذين أهداهما لى..وأعود إلى تسجيلاتى ومفكرتى لأستمتع بالصفاء الروحى والبلاغة الراقية فى صياغة لغوية بالغة الجمال والسهولة فى نفس الوقت بحيث يفهمها المستمعون مهما اختلفت مستوياتهم الاجتماعية والثقافية.. وصدق من قال إن الشيخ الشعراوى ظاهرة إلهية ومنحة من الله ليضىء بخواطره القلوب المظلمة.. تحب أن تستمع إليه.. مجرد الاستماع إليه يشعرك بحلاوة الإيمان.. حقا إنه القيثارة الإيمانية كما قيل عنه. من كلماته أن الإصلاح الذى ينشده الإسلام للمجتمع فى شئونه كلها يعتمد أول ما يعتمد على الإقناع والتربية والحوار العاقل ويرفض رفضًا حاسما اللجوء إلى العنف أو الإكراه أو استباحة حقوق الآخرين باسم الدين، ولذلك وضعت الشريعة الإسلامية طرقا واضحة لتغيير المنكر وإصلاح المعوج وتصحيح الانحراف، ومنهج الإسلام فى الإصلاح قائم على الأمر من الله إلى النبى صلى الله عليه وسلم وإلى كل من يعمل للإصلاح والهداية، وذلك فى الآية الكريمة (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). وفى رأى بعض أساتذة التفسير أن الشيخ الشعراوى يتفق فى تفسيره للقرآن مع تفسير الزمخشرى فى مؤلفه (الكشاف) وتفسير أبو السعود وهما من التفاسير التى اهتمت بتحليل الكلمات ودلالاتها وموقعها فى الجملة كما اهتمت بالمعانى البلاغية واللغوية للقرآن الكريم، وهذا الرأى ينقصه الالتفات إلى أن الشيخ الشعراوى نفسه أستاذ الأدب والبلاغة، وأهم من ذلك أن مداومته قراءة القرآن لعشرات السنين كشفت له عن معان وأسرار ليست فى كتب التفاسير، وهو طبعا اطلع على كتب التفسير ولكنه بعد أن استوعب مناهجها أصبح له منهج خاص يميزه وينفرد به، ونجاح الشيخ الشعراوى فى الوصول إلى قلوب الناس دون أن يتأثر حبهم له برحيله ورغم مرور سنوات على غيابه فإن تسجيلاته تذاع باستمرار فى الدول الإسلامية فى الإذاعات والقنوات التليفزيونية والكتب التى تضم أحاديثه تعاد طباعتها وتنفد بسرعة مدهشة، والسر فى هذا أنه جاء بشىء جديد وبفهم للدين على أنه أسلوب الحياة والمعاملات والسلوك اليومى للإنسان المؤمن. وفى مفكرتى عبارة لأستاذى الدكتور زكى نجيب محمود قال فيها: «إعجابى به إعجاب شديد، فهو معلم بطبعه وباستعداده، والصلة بينه وبين تلاميذه تنبض بالحياة نبضا قويا، وحديثه يجاوز الآذان لينفذ فى قلوب السامعين فى لمح البصر سواء أفهمت عقولهم ما قاله أم لم تفهمه، ويكفيهم أنه أحدث فى قلوبهم رجفة الإيمان بكلماته وأسلوبه، وأهم من ذلك عندى هو منهجه فى الشرح والتفسير، فهو يتناول المفردات اللغوية والعلاقات النحوية والبلاغية التى ترتبط بتلك المفردات وبهذا التحليل يفى بمعنى الآية إضاءة لا تدع موضعا لغموض، ولهذا ملأ الدنيا وشغل الناس كما يقول المتنبى. وإن كان للتليفزيون فضل فى الشعبية الكاسحة التى حظى بها فإن التليفزيون لا يستطيع أن يفعل ذلك ما لم يكن الشيخ الشعراوى يملك قبولا لدى المشاهدين والمستمعين بأسلوب فى الشرح والتحليل بسيط وسهل وقريب من فهم المثقف والأمى، وقد كتب أكبر خبراء الإعلام يحيى أبو بكر عنه أن أداءه ظاهرة فى الإعلام والدعوة تستحق الدراسة والتحليل ليستفيد منها الدعاة فى تجديد الخطاب الدينى. وقال عنه الكاتب والشاعر الكبير مصطفى بهجت بدوى: لم يحدث أن ظفر أحد بمكانة وبدرجة من الزيوع والانتشار ونفاذ كلماته إلى قلوب وعقول الجماهير، كما ظفر الشيخ الشعراوى، وبخاصة فى جمع الناس حوله بالملايين فى العالم الإسلامى فى أحاديثه فى التليفزيون، ومع تمكنه من العلوم الشرعية فقد أثبت أنه على دراية ومتابعة لنتائج وتطورات العلوم الحديثة، وفوق ذلك كانت فيه خفة ظل ابن البلد، وثقافة فقهية وأدبية وظفها فى التعمق فى فهم القرآن. وفعلا كان الشيخ الشعراوى يعيش يومه وليله مع القرآن، أذكر أنى سألته يوما وأنا أجرى معه حديثا صحفيا: ماذا تقرأ هذه الأيام؟.. فكانت إجابته: القرآن- فأبديت دهشتى وقلت له: هل معقول بعد عشرات السنين من مصاحبة القرآن ودراسته وتدريس تفسيره تحتاج إلى أن تقرأه، وهل تقرأه بقصد الفهم أو بقصد التعبد؟ فأجابنى: والله أنا كلما قرأت القرآن أجد فيه من معانٍ جديدة.. القرآن عطاؤه متجدد.. وأذكر أنى حضرت مناقشة رسالة جامعية حصلت بها إيناس رشدى على درجة الماجستير من كلية التربية بجامعة المنيا وأثبتت فيها أن للشيخ الشعراوى آراء تربوية يتكون منها منهج متكامل يستفاد به فى تطوير أساليب التربية وأساليب الدعوة المعاصرة. ومن أقواله التى سجلتها فى مفكرتى: الإسراف حتى فى الخير مكروه، الإسلام بدأ بكلمة ولم يبدأ بالسيف. إذا فقد المؤمن أنس دنياه فعليه ألا يفقد أنس آخرته. الإسلام منهج لتجميع القلوب وليس لتفريقها. الإسلام يريد قلوبا تخشع وليس قوالب تخضع. كنت فقيرا وهذا من فضل الله فقد أعاننى الفقر على التفرغ للعلم وعصمنى من الذلل. أفضل أنواع الحكم أن يحكم الحاكم نفسه أولا. تخلف المسلمين يرجع إلى أنهم مسلمون جغرافيا. التدين للجميع ولكن للدين علماء متخصصون. الإيمان الحقيقى أن تعايش الناس وأحداث الحياة بأخلاق الإسلام. التطرف جهل مركب والتعصب جبروت مستتر. الجبابرة يفعلون ما يريدون ولا يسمحون لأحد أن يراجعهم والمجانين أيضا يفعلون ذلك. حج بقلبك إذا لم تستطع أن تحج بجسدك. الحياة فرصة لا نعرفها إلا حين نوشك على فراقها. دوام الاتفاق نفاق وكثرة الخلاف اعتساف. وفى حديث من أحاديثه توقف عند صفات حذر منها الصفة الأولى هى أن يحب الإنسان أن يوجه إليه الشكر والتقدير على عمل لم يقم به وقام به غيره، وحب المدح فى ذاته ليس عيبا بشرط أن يكون على عمل عمله الإنسان فعلا وليس على عمل قام به غيره وهو الأحق بأن يحمد عليه. والصفة الثانية هى غياب الرحمة واللين فى التعامل مع الناس، ولذلك يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). والصفة الثالثة هى النفاق وأن يقول الإنسان بلسانه ما ليس فى قلبه. والصفة الرابعة هى البخل،والله يحذر من البخل وعدم إخراج الزكاة والصدقات بقوله (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). والصفة الخامسة هى أن يأخذ الإنسان لنفسه شيئا ليس له أو أن يأخذ فى الخفاء شيئا ليس له الحق فى أخذه وفى الآية (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)، وقد فهم المسلمون الأوائل ذلك وعملوا به حتى أن جماعة من المسلمين جاءوا إلى الخليفة عمر ليسلموا إليه تاج كِسرى بعد معركة الفرس. التاج مرصع بالجواهر الثمينة لأنهم يعلمون أن من يأخذ ماليس له يأتى به وهو يحمله على ظهره ولو أخذ بقرة وسيفضحه ذلك أمام الله وأمام الملائكة والخلق أجمعين ولذلك قال الأقدمون إن هذا الموقف هو «الفاضحة» و«الطامة»، وسيكون ذلك مصير كل من يخون الأمانة التى اؤتمن عليها فكل من سرق شيئا سيأتى يوم القيامة وهو يحمله ويحاسبه الله على جريمته بقدر ما فعل.. والمؤمن حقا هو من يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة ونموذجا وهو الذى قال الله فى وصفه (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقال عليه السلام إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق.