إذا كان الهدف من تجديد الخطاب الدينى هو مخاطبة العقول وتصحيح الأفكار ، فليس هناك وسيلة لذلك إلا اتباع أسلوب هادئ لا يؤثر على مشاعر الناس بالصوت العالى لأن تأثير ذلك سرعان ما يزول ، ولا باللجوء إلى السخرية من الآراء المخالفة وتوزيع الاتهامات جزافا ، وادعاء العلم بكل شىء وتشويه السابقين بالجملة.. أقول ذلك بعد أن تابعت بعض حلقات إسلام البحيرى الذى يقَدِّم نفسه على أنه باحث وداعية هدفه الإصلاح الدينى، ولكنه يتبع نظرية «انسف حمامك القديم» التى كانت سائدة فى زمن مضى.اسلام البحيرى يطالب فى أحاديثه بحرق كتب البخارى ومسلم ويتهم ابن تيمية بالإرهاب، ويصف الأئمة الكبار بأنهم «سفلة» ويتهمهم بالتدليس ودس التحريض على الإرهاب فى ثنايا النصوص وتفسيرها. وهو فى الحقيقة يريد أن يقنعنا بنزع القداسة عن الأئمة وعن اجتهاداتهم لأنهم بشر يمكن أن يصيبوا وأن يخطئوا، ولأنه ليس فى الإسلام شخص مقدس إلا الرسول الطاهر الصادق صلى الله عليه وسلم، وليس فى الإسلام نص مقدس إلا كتاب الله الكريم الذى لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وفى هذا يمكن أن نستمع إليه ويمكن أن نتفق معه، ولكننا لا يمكن أن نقبل منه هذا الأسلوب فى التعبير عن آرائه بما فيه من تجاوز لحدود حرية الفكر وحرية إبداء الرأى والحق فى النقد إلى الحق فى توجيه السب والقذف وبألفاظ لا تليق بمكانة علماء لهم مكانتهم إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر فى كل حال، وكذلك لا يمكن أن نتفق مع الدعوة إلى نسف التراث الإسلامى كله وهو ثروة فكرية عظيمة فى التفسير والحديث والفقة والأخلاق، ثروة لا نجد لها مثيلا فى الفكر الدينى فى العالم، ونجد دول العالم دون استثناء تحترم تراثها، وتخضعه للبحث والتحليل وللنقد وتأخذ منه وترفض ولكن لم نسمع أن أحدا من الباحثين فى التراث اليونانى أو الرومانى أو التراث الهندى والصينى وصل إلى درجة المطالبة بنسف تراثه نسفا وحرقه وإلقائه بادعاء أنه كله فساد وتضليل وتدليس. ??? وإذا كانت القضية أن هناك أحاديث منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم إذا دققنا فى تحليل مضمونها فسنجد أنها لا تتفق مع القرآن أو لا تتفق مع العقل والمنطق أو لا تتفق مع طبيعة الرسول وطبيعة دعوته، فإن هذه الأحاديث لابد من مراجعتها واحدا واحدا على أساس منهج علمى وضعه علماء الحديث منذ مئات السنين من حيث صحة السند ل (سلسلة الرواة) ومن حيث صحة المتن (المضمون) وفى هذا أبحاث كثيرة ولها علماء متخصصون ولا يحق لنا أن ندعى الاختصاص فى مسألة ودقيقة وحساسة تتعلق بالعقيدة وبصحة بالسند وما لا يسند إلى رسولنا الكريم. قد يبدى أحدنا رأيا ولكن عليه أن يبديه من موقع المتسائل وليس من موقع صاحب الكلمة الأخيرة والحكم المطلق إلا إذا كان يملك أدوات البحث والحكمة المتعارف عليها. ??? وقد رأى علماء الأزهر أن إسلام البحيرى يزدرى الدين الإسلامى، ويوجه السب إلى علماء الأزهر - وهم من هم علما فى الدين - ويتعمد إهانة الأزهر الشريف - وهو فى العالم منارة الإسلام الصحيح وقلعة الدين الحصينة والمدافع عن قيم التسامح والاعتدال والعدل والحرية التى بعث الله بها رسوله. وفى نفس الوقت فإن الأزهر لم ينكر أن بعض الأحاديث المنسوبة إلى رسولنا الكريم منحولة، وسبق أن أصدر فضيلة شيخ الأزهر السابق الدكتور محمد سيد طنطاوى قرارا بتشكيل لجنة لتنقية الأحاديث ومراجعتها وإصدار موسوعة معتمدة للأحاديث التى يثبت البحث العلمى صحتها وهذه اللجنة برئاسة الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر الأسبق وهو فى الأساس أستاذ الحديث الكبير والمرجع فى هذا الموضوع. وبذلك ليس هناك خلاف يمكن أن يستحق هذه الزوبعة التى يثيرها إسلام البحيرى، وليس الأزهر وحده الذى نبه إلى ضرورة تنقية كتب الحديث فقد سبق أن أعلن الشيخ عبد العزيز بن باز مفتى السعودية السابق أن الطعن على الأحاديث التى رواها البخارى لا يشمل كل الأحاديث ولكن يشمل «أشياء يسيرة» نبه إليها علماء سابقون ذكر منهم الدارقنى وغيره، وقال الشيخ ابن باز إن الذى عليه أهل العلم هو تلقى أحاديث صحيح البخارى وصحيح مسلم بالقبول والاحتجاج بها. ??? وقد أثار إسلام البحيرى ردود فعل شديدة بعضها يدافع عنه من منطلق حرية الرأى، وبعضها يعترض عليه.. ووصفت الأستاذة علا الشافعى، كما عرفته وتابعت مسيرته بأنه شاب يدعى الهدوء وبداخله متطرف كبير، وأنه يبدو أمام الكاميرا وقد أصابته بهوس النجومية والشهرة، وهل من حقه أن يظهر على الشاشة ليسب ويلعن وهل التنوير يكون بتحريك العقول وبالإقناع أو يكون بإهانة الثوابت، والنقد مباح على ألا يصل إلى حد التطرف وإلى السعى إلى النجومية على حساب أى شىء. ومن حيث المبدأ فإن التطاول على الأزهر مرفوض. التطاول على الأزهر مرفوض، ولكن الحوار مع علماء الأزهر مباح، لأن علماء الأزهر بشر، ويعبرون عن فكرهم هم وليس هذا فكرا مقدسا، ويتحدثون باسم مؤسسة بشرية وليس باسم الله أو نيابة عنه، ومن المسلم به أنه ليس فى الإسلام شخص مقدس إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس فيه نص مقدس إلا كلمات الله التى نزل بها الوحى الأمين. وكان المفروض أن يشرح لنا إسلام البحيرى بوضوح وبهدوء وبالمنطق فكرته الأساسية بدون اللجوء إلى الإهانة والاستهانة والاستخفاف بقيمة العلماء وبمنارة الإسلام. كان المفروض أن يشرح لنا ويقنعنا، ويضع يدنا على التفاصيل، أين هى الأحاديث المكذوبة؟ وأين هى الإسرائيليات، وأين هى التفسيرات التى تتعارض مع النصوص القرآنية أو تتعارض مع العقل والمنطق أو تتعارض مع قيم الإسلام وروحه ودعوته؟ وأن يقدم كل ما لديه بالدليل العقلى أو النقلى، وفى كتب التراث ما يؤكد وجود أخطاء وأن بعض الأحاديث والتفسيرات دسها أصحاب الفرق الدينية أو السياسية لخدمة أهدافهم، وليس ذلك جديدا ففى التراث الإسلامى الكثير من أقوال الأقدمين التى تنبه إلى ذلك، ولا نحتاج إلا إلى الجهد العلمى المنظم لبيان ما هو صحيح وما هو غير صحيح بدون التعالى والادعاء، وبدون العموميات التى شبعنا منها. ??? وأهم صفات الباحث الصادق فى أى علم التواضع واحترام من يختلف مع فكرهم، والالتزام بأسلوب مهذب هدفه الوصول إلى الحقيقة وقبول الحقيقة التى يتم التوصل إليها، والاعتراف بالخطأ إذا وقع، وكلنا نخطىء إلا من رحم ربى. وليس من الحكمة أن نقبل دعوة إسلام البحيرى إلى نسف التراث كله فهو ثروة فكرية وتاريخية ويشهد على ذلك المنصفون من الباحثين فى الشرق والغرب فى الماضى والحاضر، والقول بأن التراث العربى والإسلامى كله فساد وتدليس فهذا ظلم عظيم لا يرضاه عقل، فلا يمكن أن نصدق أن كل أئمة المسلمين كانوا مدلسين ودعاة إرهاب فهذا ما يقوله أعداء الإسلام فى كل العصور. أما الغيورون على الإسلام فيقولون إن التراث يحتاج إلى فحص بمنهج علمى جديد لأن فيه الصحيح والمدسوس، وفيه ما يصلح لهذا العصر وما لا يصلح له، ولكل مجتمع فكر يتجدد مع كل عصر، والعقل الإنسانى لا يتجمد ولا يتوقف عند عصر واحد. ??? ولعل إسلام البحيرى يستفيد من هذه الوقفة ليراجع نفسه ويصلح منهجه وأسلوبه فى البحث والتعبير ويلتزم بلغة الحوار الموضوعى الراقى الذى يخاطب العقول ويقدر على الإقناع بالمنطق والدليل، ويرفع مستوى الحوار الدينى بما يليق بالمتحدث وبالمستحقين وقبل ذلك بما يليق بالموضوع الذى يتناوله وبالهدف الذى يسعى إليه، فالموضوع هو عقيدة المسلمين، والهدف هو تصحيح بعض ما أصابها على مر العصور من الجهلاء والمتعصبين وأصحاب المصالح. وأهم أدوات من يخوض فى هذه الموضوعات الدقيقة ويريد أن يجلس مجلس العلماء ويعلمنا أمور ديننا أن يعرض فكره علينا بتواضع الإمام أبى حنيفة الذى قال: فكرنا صواب يحتمل الخطأ، وفكر غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ورحم الله من أهدى إلينا عيوبنا. والله يهدى من يشاء.