حين دخلت دار المعارف يوم 4 يوليو 1994 شعرت بالرهبة?، كيف يمكن أن أكون رئيسا لهذه المؤسسة العريقة التى تجاوز عمرها مائة عام?، وكان فيها طه حسين والعقاد وأحمد أمين والدكتور محمد حسين هيكل وعمالقة الفكر والأدب?، وكيف أديرها بعد السيد أبو النجا وأنيس منصور وصلاح منتصر.. وشعورى بالنسبة لدار المعارف هو شعور التلميذ تجاه أستاذه وصاحب الفضل عليه?، فقد ارتبطت بها منذ شبابى المبكر وتعلمت من كتبها التى تمثل ثروة غالية عندى?وكانت هذه الكتب مرجعى فى كل مراحل الدراسة الجامعية.. ومازالت إلى اليوم. اما مجلة أكتوبر فقد بدأت عملى كرئيس التحرير وكأنى أتعامل مع صديق أعرفه منذ زمن. لم تكن المجلة غريبة علىّ وأنا فى الأهرام. كنت أقرؤها بانتظام، وأتابع كتّابها ومحرريها وأعرف بعضهم معرفة شخصية كزملاء فى مهنة البحث عن المتاعب، ولم يكن يخطر ببالى أن أجلس يوما على مقعد رئيس التحرير الذى جلس عليه أنيس منصور وصلاح منتصر ولهما فى نفس معزة خاصة وذكريات جميلة.. وفى المجلة وجدت من معظم الزملاء تعاونا ساعدنى كثيرا ومازلت أحمل لهم ذكريات جميلة وأشعر بالامتنان لما قدموه لى من مساعدة سهلت علىّ الانتقال من العمل فى صحيفة يومية إلى العمل فى مجلة أسبوعية والفارق كبير بين طبيعة العملين.. واستطعنا أن نواصل مسيرة المجلة ونجدد فيها بقدر ما سمحت الظروف، ولم تكن الظروف المالية مثلا تسمح بتحسين ورق المجلة وادخال الألوان فى كل صفحاتها، لأن مجرد توفير الورق كان مشكلة، وهذه قصة طويلة تركت أثرها فى صحتى وفى نفسى، لكن روح الجماعة وتعاون الزملاء كان لهما الفضل فى مقدرتى على الاستمرار أحد عشر عاما فى هذا الموقع، وترك من الذكريات الجميلة ما أعيش عليه الآن، وفزت بصداقات أعتنى بها واعتبرها ثروتى الحقيقية التى خرجت بها من الدنيا. ولم تكن مجلة أكتوبر محتاجه إلى إعادة بناء، لأنها كانت مستقرة وراسخة ولها قراء علىّ أن أحرص عليهم، وأذكر فى اليوم التالى لعملى أن زارنى قارئى من الإسكندرية ومعه جميع أعداد مجلة أكتوبر منذ العدد الأول - وهو عدد يصعب جدا الحصول عليه - وقال لى إنه يحتفظ بهذه الأعداد ويعتز بها وغير مستعد للتفريط فيها رغم أنه عرض عليه مبلغ كبير لبيعها، وقال إنه جاء ليقول لى: عليك أن تواصل إصدار مجلتنا كما تعودنا عليها ولا تكن مثل الذين يتولون منصبا فيهدموا ما فعله السابقين، وكانت هذه الزيارة - كما اعتبرتها - علامة من الله توجه خطواتى القادمة، لذلك حرصت على أن تبقى أكتوبر هى أكتوبر، وما تمكن إضافته هو التطور الطبيعى لمسايرة تطور الحياة والمجتمع. وظلت «أكتوبر» مدرسة للصحافة المتوازنة، بين مدرسة الإثارة الصحفية وصحافة الانفلات والخروج على القيم المهنية والأخلاقية بادعاء الشجاعة، وصحافة الفضائح والتشهير والفبركة.. كانت السوق الصحفية مليئة بأشكال وألوان من صحافة جامدة بأعداء المحافظة والوقار، وصحافة صفراء عارية بادعاء ممارسة الحرية.. وأكتوبر مع قافلة الصحافة المحترمة الموضوعية التى تهدف إلى البناء وليس الهدم.. فيها توازن بين الأخبار والتحقيقات والكاريكاتير والفنون الصحفية الأخرى، وفيها الأدب والثقافة والرياضة والفن والتسلية بحيث يجد كل قارئ ما يرضيه، وكان رأيى - ومازال - أن الصحيفة والمجلة مثل البوفيه المفتوح، لا يمكن أن يكون كل ما فيه من أصناف اللحوم ولا شىء غير ذلك، لأن الضيوف لكل واحد ما يفضله.. واحد يحب اللحوم وواحد يحب الأسماك وواحد يريد مكرونة وواحد يبحث عن السلطة والمخلل، وواحد يبحث عن «شويه ملح» وأخيرًا لكل واحد ما يطلبه للتحليه.. لهذا كانت - ومازالت - مجلة أكتوبر فيها تنوع ولم تقع فى الفخ الذى وقعت فيه مجلات أخرى بأن يكون كل ما فيها يدور حول موضوع واحد. وكنت حريصا على كتّاب أكتوبر وأعتبرهم ثروتها.. أنيس منصور.. د. مصطفى محمود.. الدكتور عبد العظيم رمضان.. الدكتور حسين مؤنس.. الأب متى المسكين.. المستشار سعيد العشماوى.. المستشار عبد الحميد يونس وغيرهم واستطعت أن أحصل على بعض مقالات نجيب محفوظ.. بالإضافة إلى الندوات مع جميع الوزراء ومع البابا شنودة ومع الأستاذ محمد حسنين هيكل.. وقمنا بحملات صحفية انتصرنا فيها ولم يصلنا تكذيب واحد لخبر نشرناه.. وأذكر فى بداية عملى أن سألت الشيخ الشعراوى أن يدعو لى فرفع يديه وقال اللهم وفقه ليؤثر الصدق على السبق، واتخذت هذا الدعاء شعارا لى. حاربنا التشدد والتطرف والإرهاب المتلبس بالدين، وقدمنا المفاهيم الإسلامية المعتدلة وكشفنا حقيقة انحراف الجماعات ومنهجها فى السيطرة على عقول الشباب وحذرنا من ذلك وطالبنا ببرامج للتربية الدينية والسياسية لتحصين عقول الشباب، دافعنا عن الاستقلال الوطنى وعن الروح الوطنية. حاربنا الفساد وحذرنا من الاحتكاك ومن زواج الثروة والسلطة ومن سيطرة المال على الانتخابات، نظمنا حملات على سلق القوانين، وغلاء الأسعار والتحكم فى الأسواق وأزمة المساكن، والبطالة، حذرنا من خطورة الدعاة الأدعياء ممن يتصدون للإفتاء فى الدين وهم ليسوا مؤهلين للفتوى وملأوا الساحة بالفتاوى المضلله. حرصت على أن يكون للشباب دور وفرصة للصعود والترقى وفى نفس الوقت أن يكون لشيوخ المهنة مكانتهم لكى تواصل الأجيال وتنتقل الخبرة، لأن الحياة السوية لا تتقدم بحماس الشباب بدون تعقل وخبرة الشيوخ. وإيمانى دائما أن العمل الصحفى مثل السياسة هى فن الممكن وليس الجرى وراء المستحيل.. وعلمتنى الحياة ما لخص الشاعر: ما كل ما يتمنى المرء يدركه.. تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن! وتعلمت أن الصحافة مرآة للمجتمع لكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات.. وعرض السلبيات ليس للتشهير ولكن لتقديم أفكار للإصلاح، وكنت أستشهد بعبارة انديرا غاندى عندما انتقدت الصحافة الهندية، وقالت إن هذه الصحافة تمارس عملها على أن الأخبار السيئة هى وحدها الأخبار الجيدة، وأقول دائما الصحافة المحترفة هى التى تقدم الأخبار السيئة والأخبار السارة، ولا تتجاهل ما يتحقق من عمل يفيد المجتمع، وكنت أضع على مكتبى ميزانا صغيرا وأقول لزملائى لا تملأوا كفة السيئات وتنسوا ما يستحق أن يكون فى كفة الحسنات، وأقول لا تحكموا على شخص أو على عمل إلا بعد أن يستريح ضميركم وتكون لديكم أدلة كافية، وثقو أن كلمة فى حق شخص هى شهادة يحاسبكم الله عليها.. وليكن ضميركم ضمير القاضى. وحرصت أن تكون علاقتنا بمصادرنا علاقة موضوعية.. ليست علاقة عداء.. وأيضًا ليست.. «زواجا كاثوليكيا».. ودافعنا كثيرا عن الثقافة الوطنية، وعن الإصلاح الاجتماعى وتحديث المجتمع، وعن إنصاف المرأة لتتساوى ليس مع دول الغرب بل مع دول عربية وإسلامية سبقتنا كثيرا فى إعطاء المرأة حقوقها الإنسانية والاجتماعية والسياسية.. وحين غادرت المجلة - ودار المعارف - يوم 4 يوليو 2005 بعد أحد عشر عاما ونصف من الحياة فيها كنت واثقا أن المجلة سوف تتقدم خطوات أكثر - وهذه هى سنة الحياة - وكنت أعلم أنى لم أحقق كل ما كنت أتمناه ولكنى عملت بكل جهدى لتحقيق ذلك. ولم أستطع إرضاء كل الناس وقد بذلت معهم كل ما أستطيع وأرضيت ضميرى والكمال لله وحده وعزائى قول الحكيم العربى: إن إرضاء كل الناس غاية لا تدرك. وأحمد الله أن المجلة الآن تتقدم بخطوات سريعة ويحقق أصدقائى وزملائى لها أمنياتى.. وستبقى مدرسة أكتوبر راسخة للصحافة الجادة الموضوعية ملتزمة بقضايا الوطن، ومدافعة عن الحرية وعن الإسلام من عدوان الأدعياء والمفسدين.