يجتهد الباحثون فى مجال ثقافة الأطفال فى ابتكار أساليب جديدة لتنمية الوعى الثقافى والتزود بالمعرفة.. وتنمية الخيال لدى هذه الشريحة الكبيرة التى ينتظرها المستقبل.. والحكى الشعبى يكاد يكون موجودًا فى كل شعوب العالم.. وإن اختلفت أساليبه.. فلكل مجتمع تراثه الشعبى من الحكايات التى يرويها الأجداد والآباء للأحفاد.. وأشهر هذه الحكايات ألف ليلة وليلة فى الشرق.. وحكايات الأخوان جريم فى الغرب.. ومن هذين المصدرين تفرعت الحكايات وتنوعت مستلهمة من تراث كل أمة لتتميز عن غيرها من الحكايات..والجدة الحكاءة نموذج قديم.. عاشت عليه الأجيال.. واستمتعت بما ترويه من نوادر وأقاصيص تنمى الخيال لدى الصغار.. وتمدهم بالثقافة والمعرفة.. لكن هذا النموذج قد تراجع فى العصر الراهن.. واختفى - أو يكاد - دور الجدة والآباء من منظومة تربية الأطفال داخل الأسرة.. واستحدثت وسائل أخرى تحاول القيام بدور الجدة لكنها لم تفلح.. ليظل نموذج الجدة هو الحضن الدافئ لأطفالنا يأخذون عنه المتعة والتسلية والمعرفة جميعا.. وهناك تجارب كثيرة فى مصر وبلدان أخرى تحاول إحياء هذا الدور.. ومن هذه التجارب المتميزة تجربة مغربية قامت بها الدكتورة نُجيْمة طاى طاى غزالى وزيرة الثقافة السابقة فى المغرب.. والتى حضرت أخيرًا مؤتمر الموروثات الشعبية بالقاهرة واستضافها اتحاد الكُتّاب لتحكى تجربتها لأعضاء شُعبة أدب الأطفال والتى علّق عليها وناقشها كاتب الأطفال الكبير يعقوب الشارونى وكاتب هذه السطور وربيع مفتاح رئيس اللجنة الثقافية بالاتحاد. وتحكى الدكتورة نُجيْمة أنها بدأت من منتصف التسعينيات من القرن الماضى فى تجربتها التى تقوم على الحكى للأطفال وعلى تشجيعهم أيضًا على إبداع الحكايات واستعانت بالجدات والأمهات فى دور المسنين وفى الأسر المغربية بإحياء ذاكرتهن والتواصل مع الأطفال من خلال الحكايات الشعبية.. وأطلقت الدكتورة نُجيْمة على هذا المشروع (سَبَك الحكاية) وكانت المدارس فى المغرب هى مجال هذه التجربة.. واعتمد منهج التجربة على مراحل أربع: مرحلة الحكى - مرحلة جمع الحكايات الشعبية - مرحلة إبداع الحكايات الجماعية - العودة إلى الحكى من طرف التلميذ نفسه.. وقد قامت المرحلة الأولى على تعلم الأطفال كيف ينصتون.. ولا يقتصرون فقط على التلقى والاستماع.. حيث يسمح الإنصات بالغوص فى المتخيل والتحرر من متطلبات الواقع.. والترقب لما سوف يحدث.. ثم يضع المعلم بعد الانتهاء من الحكى أسئلة تفجر طاقات الأطفال ومدى استيعابهم للحكاية.. ثم يقوم الأطفال - فى المرحلة الثانية - بجمع ما يتصل بالموضوع من حكايات شعبية من محيط الأسرة والبيئة بحيث تنتمى هذه الحكايات إلى محيط الطفل الثقافى.. ثم يقوم الأطفال - تحت إشراف المتخصصين - بتصنيف هذه الحكايات وإعدادها للتوثيق والنشر على شكل (ديوان الحكاية الشعبية). ثم تبدأ المرحلة الثالثة حيث يشترك الأطفال فيما بينهم بإبداع حكاية جماعية تمزج الواقع والخيال.. والقديم والحديث.. والعلمى والسحرى.. وهذه المرحلة تمهد لكى يحكى كل طفل على حده حكاية خاصة به فى موضوع يطرح على الجميع.. فمثلا عرضت التجربة موضوع (نقطة الماء) وتركت للأطفال الفرصة الكاملة للتعبير عن هذا الموضوع.. وكيف ينظر كل منهم إلى نقطة الماء.. وقد تلقى المشرفون حكايات عجيبة طريفة كتبها الأطفال بعفوية شديدة وعبروا فيها عن كل القيم التى تتعلق بنقطة الماء.. والحق يقال إن هذه التجربة فاقت التصور عن قدرة الأطفال على الحكى فقد تجاوزوا كل مخاوف الكبار ومحاذيرهم.. وعبروا بصدق وحرية دون قيود عن هذا الموضوع الحيوى.. وتضيف الدكتورة نُجيْمة أنها لا تزال تمارس هذه التجربة حتى الآن وأنها تأكدت أن رغبة الأطفال فى الحكى الشعبى تترجم حرصهم على هويتهم بعد أن أغرق الغزو الثقافى - المغرب - بتقاليد.. وثقافة طاغية.. كادت تمحو اللغة والهوية معا.. لقد نجحت د. نُجيْمة فى توثيق هذا الجهد.. وصار معها فريق عمل متطوع وأقبل على المشروع رعاة وداعمون كثيرون.. حتى تأصلت التجربة وصارت متميزة.. بل صارت نموذجا لأى تجارب مماثلة.. ولابد أن نؤكد هنا أننا فى مصر لنا تجارب فى هذا المجال ومتخصصون وباحثون وحكاءون قاموا بمشاريع مشابهة.. لكن هذه المشاريع للأسف لم توثق ولم تنشر فى كتاب - كما حدث فى التجربة المغربية.. هنا فى مصر عقدت ورش حكى كثيرة فى قصور الثقافة وفى المكتبات العامة وكان الأطفال يستمعون إلى الحكاية ويسرعون برسمها فى لوحات فنية جميلة تدل على وعى الطفل المصرى وخياله المتدفق.. هنا فى مصر أيضا مسابقات عديدة فى مجال الإبداع الأدبى بأجناسه المختلفة.. وحصل فيها الأطفال على جوائز متنوعة.. لكن هذه التجربة أيضا تختفى بمجرد إقامة الاحتفال دون توثيق.. وهنا أيضا فى مصر تقيم شعبة أدب الأطفال باتحاد الكُتّاب بالتعاون مع وزارة الشباب مسابقة سنوية بعنوان (الناقد الصغير) يطلب فيها من الأطفال قراءة أى كتاب ثم إبداء آرائهم فيه - أى نقده - وأيضا لا توثق هذه المسابقة.. نحن إذن ندعو إلى توثيق هذه التجارب والاتفاق على إنجازها لأنها تنشئ طفلًا واعيًا ذكيًا واسع المعرفة والخيال.. مؤهلًا للمستقبل.. يقول الشاعر عمرو بن كلثوم: إذا بلغ الرضيعُ لنا فطاما