الجماعات والأفراد الذين أفتوا بتكفير الحكام المسلمين وقتالهم فى هذا العصر الذى نعيشه، انطلقوا فى فتاويهم القاتلة مما تصوروا أنه قاعدة شرعية عرفت اصطلاحا ب «الحاكمية» التى تنطلق من تفسيرهم للعبارة القرآنية: «وما الحكم إلا لله» وقالوا إنها تمثل منهج الإسلام فى الحكم، ومعناها الحاكمية الربانية بمعنى تطبيق الشريعة المنزلة وعدم اللجوء لأى اجتهاد قانونى بشرى من دساتير أو قوانين مفصلة لهذه الدساتير، وقام هؤلاء التكفيريون بقياس أداء الحكام والأنظمة فى الدول الإسلامية المعاصرة على هذا المنهج فرسبت فى الأختبار لأنها استبدلت العلمانية وما يتفرع عنها من الديمقراطية والمواطنة بالحاكمية الربانية وأخوة الإسلام، تشبها بنماذج الحكم الغربى. ولما كان هذا الغرب كافرًا - فى نظر هؤلاء - فالسائرون على نهجه من الحكام حتى ولو انتسبوا إلى الإسلام كفار، لا فرق فى هذا بين حاكم وطنى وآخر غير وطنى.. وقبل ثورة 25 يناير 2011 انتشرت كوادر جماعة الإخوان ومنظريهم الذين يجيدون الحوار والمجادلة فى عدد من وسائل الإعلام يرفضون هذا المنهج ويهاجمون دعاوى التكفير وقتال الحكام المسلمين ويعلنون قبولهم بالمنهج الغربى والديموقراطية فى الحكم ..لأنهم كانوا فى هذا الوقت يسعون لإطلاق حزبهم السياسى «حزب الحرية والعدالة» ويريدون تمريره للمجتمع على أنه سلوك الجماعة والذراع السياسية لها، فهل كان الفكر الذى انطلق منه العمل الحزبى هو فكر حسن البنا الوارد فى تراثه القولى والذى تم تدوينه عنه؟! سوف نرى . (1) وكما قلنا، فقبل ثورة يناير 2011 كان قادة تنظيم الإخوان فى مصر يدركون أن هناك تغييرًا قادمًا لا محالة فى شكل الحكم فى مصر، وأن رياح التغيير التى وصلت مقدماتها من الغرب تحمل على أجنحتها بذور الديمقراطية حتى أن الباحثين فى مراكز الفكر ورعاة هذا التغيير فى الغرب أطلقوا على التغيير المنتظر: «التحول الديمقراطى»، ولما كانت جماعة الإخوان فى مصر طامحة للسلطة تواقة لأن يكون لكوادرها ورجالها دور كبير فى إدارة مصر بعد سقوط نظام مبارك، فقد سعت الجماعة لتغيير صورتها عند المصريين من جماعة دينية دعوية إلى جماعة سياسية ذات مرجعية دينية ويتفرع عنها حزب سياسى مدنى!! وانطلق حزب «الحرية والعدالة» تؤطره أفكار المدنية الحديثة مثل الديمقراطية والمواطنة وقبول الآخر المختلف فى الدين والجنس والعرق، ولا يرفض برنامج الحزب الإبداع والفنون وكل هذه الأنشطة البشرية التى تتصادم مع فكر الجماعات الإسلامية المتشددة التى أدارت لها ظهرها وتوجهت لليبراليين والعلمانيين والوسطيين من المصريين تقول لهم: ماذا تريدون منا أكثر من ذلك؟! بل حدث هذا قبل تكوين الحزب حين خرج من داخل الجماعة أصوات إصلاحية تروج أن فكر الجماعة مؤسس على التصالح مع هذه التابوهات (الديموقراطية، والمسيحيون، والمرأة، والفنون) وقد كان موقف الجماعة منها غامضا، وعمومًا فهى أمور أخف وطأة وأخف من التكفير وتوجيه السلاح نحو المجتمع أو الدخول معه فى صدام مسلح. وانطلقت كوادر الجماعة فى النصف الثانى من العشرة الأولى من القرن الواحد والعشرين تتواصل مع أجهزة الإعلام والفضائيات وخاصة قناة الجزيرة التى تبنت تحركات الجماعة ونجّمت كوادرها أمثال د. عبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان وجمال حشمت التى أحسنت تقديم فكر الحزب المزمع تشكيله وبرنامجه وبما يناسب مرحلة التحوّل الديمقراطى كما قلنا لكن هل يتفق هذا النهج الجديد للجماعة مع الأسس التى وضعها حسن البنا فى دعوته الأولى؟! سوف نرى. (2) فى مجموعة الرسائل وتحت عنوان «الإخوان تحت راية القرآن» يتحدث حسن البنا إلى جماعته وإلى من تصله الرسالة فيقول: «أيها الإخوان المسلمون.. أيها الناس أجمعون إن الله بعث لكم إمامًا، ووضع لكم نظامًا، وفصلّ أحكامًا، وأنزل كتابًا، وأحل حلالا، وحرم حراما، وأرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم وهداكم سواء السبيل، فهل اتبعتم إمامه، واحترمتم نظامه، ونفذتم أحكامه، وقدستم كتابه، وأحللتم حرامه، وحرمتم حرامه؟ كونوا صرحاء فى الجواب، وسترون الحقيقة واضحة أمامكم، كل النظم التى تسيرون عليها فى شؤونكم الحيوية نظم تقليدية بحتة لا تتصل بالإسلام، ولا تستمد منه ولا تعتمد عليه. ويعدد حسن البنا هذه النظم الداخلية التى يصفها بأنها (نظم تقليدية لا تتصل بالإسلام، ولا تستمد منه ولا تعتمد عليه) فنكتشف أنها مكونات الدولة أو مؤسساتها وكل نشاطاتها وهى كما يقول: نظام الحكم الداخلى، نظام العلاقات الدولية، نظام القضاء، نظام الدفاع والجندية، نظام المال والاقتصاد للدولة والأفراد، نظام الثقافة والتعليم، بل نظام الأسرة والبيت، بل نظام الفرد فى سلوكه الخاص، والروح العام الذى يهيمن على الحكام والمحكومين ويشكل مظاهر الحياة على اختلافها، ويعيد البنا التأكيد على أن كل ما سبق بعيد عن الإسلام وتعاليم الإسلام، ثم يضيف متسائلا: وماذا بقى بعد هذا؟! ثم يجيب: هذه المساجد الشامخة القائمة التى يعمرها الفقراء والعاجزون، فيؤدون فيها ركعات خالية من معانى الروحانية والخشوع إلا من هدى الله.. وعن أداء المسلمين لشعيرة الصيام يقول: «هذه الأيام التى تصام فى العام فتكون موسمًا للتعطل والتبطل والطعام والشراب، وقلما تتجدد فيها نفس أو تزكو بها روح» ويضيف: «هذه المظاهر الخادعة من المسابح والملابس، واللحى والمراسم، والطقوس والألفاظ والكلمات» ويتساءل مستنكرا: «أهذا هو الإسلام الذى أراده الله أن يكون رحمته العظمى ومنته الكبرى على العالمين؟! أهذا هدى محمد صلى الله عليه وسلم الذى أراد به أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور؟ أهذا هو تشريع القرآن الذى عالج أدواء الأمم ومشكلات الشعوب؟ ووضع للإصلاح أدق القواعد وأرسخ الأصول؟» (3) هذا حسن البنا يستنكر الواقع الإسلامى الذى يراه فى مجتمعه مصر بشدة وينتقل فى رسالته من الاستنكار إلى موجة التقليد الغربى التى يرى أن المجتمع المسلم قد غرق فيها وكان يقصد مجتمع المصريين الذى يعيش فيه ولا يعرف غيره تقريبا فى هذا التاريخ، وبعد ذلك يواصل البنا الهجوم على حضارة الترف والنعيم (الغربية) التى يرى – حسب كلامه – أنها اجتاحت فى غفلة من الزمن وغرور من أمم الإسلام العقول والأفكار المسلمة ويدعو البنا المسلمين إلى أن يعترفوا بأنهم ابتعدوا عن هدى الإسلام وأصوله وقواعده وينهى كلامه فى رسالته بتوضيح مهمة «الإخوان المسلمين» فيطالبهم بأن يقفوا فى وجه هذه الموجة الطاغية من حضارة المتع والشهوات، وأن تكون هذه المواجهة فى مصر أولا – بحكم أنها فى المقدمة من دول الإسلام وشعوبه – كما يقول البنا ثم فى غيرها من الدول، وأن يتم تأسيس نظام داخلى للحكم يتحقق به قول الله تبارك وتعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) صدق الله العظيم. (4) وهذا هو تأويل حسن البنا للآية القرآنية، ليأتى من بعده سيد قطب ويؤسس عليه ويأتى من بعدهما أيمن الظواهرى وينطلق منه إلى الدعوة لمحاربة الأنظمة التى تحكم – بما لم ينزل الله – هى فكرة الحاكمية التى تم تأويلها لتنتهى إلى ما انتهت إليه جماعات العنف والتكفير وهى نفسها فكرة الجهاد الموجه للأنظمة الداخلية التى تأسس عليها التنظيم المسلح للجماعة. ولا يختلف ما أوردناه من رسالة حسن البنا وأسس فيه لرفض الأوضاع القائمة فى نظم الحكم والمجتمعات الإسلامية والدعوة إلى الانقلاب عليه وتغييره عما ورد عن سيد قطب فى كتابه فى ظلال القرآن (الطبعة التاسعة لدار الشروق 1980) وجاء فيه الآتى: «وهذه المهمة، مهمة إحداث انقلاب إسلامى عام غير منحصرة فى قطر دون قطر!! بل ما يريده الإسلام ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل فى جميع أنحاء المعمورة! هذه هى غايته العليا، ومقصده الأسمى الذى يطمح إليه ببصره، إلا أنه لا مندوحة للمسلمين أو أعضاء «الحزب الإسلامى» عن الشروع فى مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود، والسعى وراء تغيير نظم الحكم فى بلادهم التى يسكنونها.. انتهى هذا هو جوهر الفكرة: الجهاد الموجه للداخل للتغيير.. هذه الفكرة التى امتدت وتطورت إلى شكلها الأخير الذى نراه الآن فى داعش وكتائب أنصار بيت المقدس وباقى التنظيمات الإرهابية التى تنسب نفسها للإسلام وتدعو إلى تغيير أنظمة الحكم بالقوة المسلحة!! بينما مازال الإخوان يرددون أنهم يرفضون هذا السلوك!!