إذا اتفقنا أن هناك أخطاء تاريخية وقعت فيها جماعة الإخوان وكانت تتسبب دائما فى فقدانها للأرض التى تقطعها وتعود بها إلى المربع الأول من الفشل فى الوصول للسلطة هذا الفشل الذى يعقبه الدخول فى صدام عنيف ضد الأنظمة الحاكمة .. إذا كانت هذه الفرضية صحيحة فهل أخطاء جماعة الإخوان المسلمين تتركز فى منهجها وفكرها الذى وضعه بالأساس حسن البنا عند تأسيس الجماعة وأضاف إليه ما أضاف طوال حياته وحتى اغتياله عام 1948؟! الإجابة الصحيحة تتطلب أن نفحص علاقة الجماعة بالحكام منذ الملك فؤاد أول الحكام الذى تعاملت معه الجماعة بعد إعلانها عام 1928 وحتى مبارك آخر الحكام الذى انقلبت عليه الجماعة. (1) الجانب النظرى فى علاقة الإخوان بالحكام - بالطبع كان المقصود حكام مصر - يقول فيه الإخوان إنهم تعلموا من دينهم أن طغيان الفرد فى أمة ما جريمة غليظة، وإن الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع ولا يستحق ذرة من التأييد إلا إذا كان معبرا عن روح الجماعة ومستقيما مع أهدافها، لكن حسن البنا كان يقدم للجماعة نموذجا مغايرا فى تعامله وخطابه للملكين فؤاد وفاروق اللذين عاصرهما البنا، وتكرر نفس التناقض فى الموقف مع جمال عبد الناصر، الذى تحالف الإخوان معه ثم انقلبوا عليه وحاولوا اغتياله ومنذ سنوات تكرر موقف مشابه للإخوان فى مهادنتهم لحسنى مبارك، وتأييده حين قرر إعادة ترشيح نفسه فى انتخابات 1987 ثم تآمروا ضده لخلعه بعد أن قويت شوكتهم بدعم من الخارج ودخولهم البرلمان فى 2005 بنسبة غير مسبوقة.. هو إذن نهج متكرر فى تاريخ الإخوان، يعكس أن حركتهم على الأرض وامتلاكهم للقوة هو الذى يحركهم وليس المبادئ. ومع نهاية الثلاثينات من القرن الماضى بلغت فروع الإخوان 300 فرع توزعت على أنحاء مصر طولا وعرضا، وبدأت الجماعة تشعر بقوتها لكن هذا لم يمنعها أو يمنع المرشد حسن البنا من البحث الدائم عن ظهير سياسى وكانت الجماعة قد وجدته من قبل فى القصر فتحالفت فى البداية مع الملك فؤاد وشجعته مثلما شجعه الإنجليز على توهم أنه الخليفة المنتظر للمسلمين بعد سقوط الخليفة العثمانى، وكانت بريطانيا تستخدم هذه اللعبة وتشجعها لتضرب بها ظاهرة نزوع الشعوب والأوطان العربية للتحرر من الاستعمار (البريطانى وغيره) وبزوغ فكرة القوميات تقليدا لما حدث فى أوروبا. لذلك لا تندهش إذا وجدت فى مذكرات البنا «الدعوة والداعية» هذا الخطاب الموجه من الأخير إلى الملك فؤاد يقول فيه: « بسم الله الرحمن الرحيم إلى سدة صاحب الجلالة الملكية حامى حمى الدين ونصير الإسلام والمسلمين مليك مصر المفدى يتقدم أعضاء مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين المجتمعون بمدينة الإسماعيلية بتاريخ كذا، برفع أصدق آيات الولاء والإخلاص للعرش المفدى ولجلالة المليك وسمو ولى عهده المحبوب الملك فاروق ويلجئون إلى جلالتكم راجين حماية المخلص الأمين من عدوان المبشرين الصارخ على عقائده وأبنائه وفلذات كبده بتكفيرهم وتشريدهم وإخافته وتزوجيهم من غير أبناء دينه، الأمر الذى حذره الإسلام وحرمه وتوعد فاعليه أشد الوعيد وقد جعلكم الله حماة دينه والقائمين بحراسة شريعته.. إلى أن ينتهى: « إليكم يا صاحب الجلالة أصدق آيات الولاء والجلال من المخلصين إلى عرشكم المفدى». (2) فلما مات فؤاد وورثه فى الحكم ابنه فاروق اندفع الإخوان نحو الملك الشاب بتشجيع من بعض السياسيين الموالين للقصر والواقفين فى صفه ضد حزب الوفد، وكان مؤيد الجماعة فى هذا على باشا ماهر المقرب من فاروق، ومن جانبه كان البنا أحرص على علاقة جماعته بالقصر لضمان استخدام سلطاته لصالح الجماعة. وتولت جريدة «الإخوان المسلمين» ذراع الجماعة الإعلامى فى هذا التاريخ الترويج للملك الشاب فاروق وإظهاره بمظهر حامى الديار والعقيدة أو ولى من أولياء الله الصالحين، فنرى الجريدة تنشر مقالا يحمل عنوان «جلالة الفاروق.. المثل الأعلى لأمته» يدبج فيه كاتب المقال كلاما (من عنده) عن فاروق الملك الذى امتلك قلوب رعيته بغيرته على الدين، ويصف استقبال الجماهير له وهو فى طريقه إلى أحد المساجد لتأدية الصلاة الجامعة ودعوات الجماهير له وهتافها بحياته، والسبب أن أبناء الشعب المصرى اتخذوا من الملك الأسوة الحسنة، واعتبروه المثل الأعلى كما ترى الجريدة. وفى سيرة حسن البنا نفسه ما يكشف عن هذا التوجه بوضوح شديد، ففى نفس الجريدة يكتب المرشد مقالا بعنوان «حامى المصحف»، ويحكى البنا فى مقاله حكاية لا نعرف إن كانت حقيقية أم خيالية وفيها أنه أثناء رحلة الملك فاروق للصعيد أخرج أحد المرافقين له فصاً أثريا وقال: إنه الذى يجلب له الحظ والخير، وأخرج آخر مفتاحًا وادعى مثل هذه الدعوى، فما كان من فاروق إلا أن أخرج مصحفًا، وقال: «إن هذا هو مفتاح كل خير عندي»! ويضيف البنا فى مقاله إنه إذا كان (فاروق) قد ضم القرآن إلى قلبه ومزج به روحه، فإنه لا يخدم نفسه فى الدنيا والآخرة فحسب ولكنه بذلك يضمن لمصر حُسن التوجيه، ويحول بينها وبين العناد ويقيمها على أفضل المناهج، ويسلك بها أقرب الطرق إلى كل خير، وهو فى الوقت نفسه يضمن ولاء أربعمائة مليون من المسلمين فى آفاق الأرض وتشرئب أعناقهم وتهفوا أرواحهم إلى الملك الفاضل الذى يبايعهم على أن يكون حاميًا للمصحف، فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه جنودًا للمصحف، وأكبر الظن أن الأمنية الفاضلة ستصير حقيقة ماثلة، وأن الله قد اختار لهذه الهداية العامة الفاروق، وينتهى البنا بالدعاء لمليكه: «فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص جنودك». (3) كان هذا موقف الجماعة من القصر والنظام الملكى قبل أن تتآمر الجماعة بعد موت البنا على فاروق، وتتعاون مع الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر على الثورة ضده بل وتنسبها للجماعة (وتطلب نصيبها فى الحكم بعد نجاح الثورة على هذا الأساس!) وهنا لابد أن نسألهم: لماذا تخليتم عن مبدئكم الذى أعلنه البنا مرارًا وأكد عليه ومن بعده المرشد الثانى حسن الهضيبى من عدم الانقلاب على الحكام والأنظمة؟ أم هى سياسة اقتناص المغانم وانتهاز الفرص التى تقفز بكم من النقيض للنقيض عند الطمع فى الربح؟! والسؤال الأخير وجهه أيمن الظواهرى للإخوان فى كتابه: «الحصاد المر»، واتهم فيه المرشد والجماعة بازدواجية القول والفعل، ومناقضة السلوك لأصول الشرع، وأنا حين أنقل هذا عن الظواهرى أكون مثل ناقل الكفر الذى هو ليس بكافر، فالظواهرى يهاجم الجماعة لأنها لا تحارب الأنظمة بقوة السلاح، ولكننى أثبت على الجماعة أنها لم تلتزم الصدق مع نفسها ومع الحكام الفاسدين، بل فعلت العكس فزينت فسادهم وجملتهم بما ليس فيهم، وكان أولى بها أن تقوم بدور المعارضة الشريفة طالما اشتغلت بالسياسة. (4) وقرب نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات من القرن الماضى كانت الجماعة بالفعل قد انخرطت فى العمل السياسى حسب الطبخة والثقافة السائدة فى هذا التاريخ وليس حسب المثال الربانى الذى كان يصدرّه حسن البنا فى خطاباته لأتباعه ولغيرهم، فى رسائله التى يوجهها للمؤتمرات العامة وغيرها من المؤتمرات، وفى كتاباته، ولم ينكر البنا هذا، لكن عندما انغرست قدما الجماعة فى وحل السياسة وخصوماتها وصراعاتها ومناوراتها بين القصر والأحزاب والإنجليز صار أعداء الإخوان يوجهون للجماعة تهمة الانحراف عن العمل الدعوى إلى العمل السياسى (بالمفهوم السيئ الشائع عن السياسة فى أذهان العامة) وهو ما دفع البنا إلى أن يرد على هذه التهمة بتصدير المنهج النظرى والمثالى عن السياسة ويصف العمل السياسى بأنه جزء من طبيعة الدين الإسلامى ويبرر أن الجماعة اضطرت للنزول إلى هذا الميدان بعد فشل الحكومات المصرية وعدم الأخذ بنصائح ودراسات الإخوان التى قدموها لتلك الحكومات المصرية المتعاقبة.. إلى آخره مع التأكيد على أن الإخوان منذ أن اقتحموا العمل السياسى فى سنة 1945 – حسب البنا – وبعد صدور قانون الجمعيات الخيرية فصلوا تمام الفصل بين نشاطهم الاجتماعى الخيرى والدينى والوطنى وظلوا يعملون فى الميدانين فى حدود النظام والقانون..!! هذا ما قاله البنا وهو فى حقيقته خلط متعمد منه بين المثال والواقع الذى تعيشه الجماعة ويخالف النظام والقانون إذا اتفق مع مصلحة ومنفعة دنيوية للجماعة تقربها من الوصول للسلطة ، كان هذا هو أسلوب الجماعة الدائم ويمكنكم أن تعودوا لقراءة المقال لتتأكدوا.