يختلف ما تحقق للمجموعات الكردية من تطور سياسى فيما بينها، ويرجع ذلك إلى العامل الخارجى وهو الأهم والذى يؤثر فى مجموعة دون أخرى وحسب معطيات الظروف الدولية والإقليمية، وسنعرض بإيجاز ما تحقق لكل مجموعة على حدة حتى قبيل الأحداث الأخيرة المتمركزة حول مدينة كوبانى الكردية السورية. أكراد تركيا هى المجموعة الأكبر عددًا ضمن أعداد الأكراد فى كافة الدول الأخرى، ووفق فلسفة الحكم التى وضع أسسها كمال أتاتورك لا يعترف إلا بالقومية التركية وحدها فى تركيا، أما الأكراد فهم (أتراك الجبل)، وحدثت عدة ثورات كردية تم قمعها بشدة، إلا أن المتغير الأهم كان بتأسيس حزب العمال الكردستانى (بى كى كى) بزعامة عبد الله أوجلان، والذى بدأ أول عملياته المسلحة عام 1984، وكبد تركيا خسائر فادحة فى الاقتصاد والأرواح، إلى أن تم اصطياد أوجلان فى نيروبى بكينيا، وحوكم، وتظاهر الشباب التركى فى أوروبا، وقام بعضهم بحرق نفسه فى شوارع المدن الأوروبية. حينئذ حظيت القضية الكردية باهتمام دولى واسع، فيما بعد بدأت الحكومة التركية بتغيير نظرتها تجاه الأكراد، فاعترفت بالقومية الكردية، وسمحت بتشكيل الأحزاب الكردية التى دخلت الانتخابات البرلمانية، كما وافقت على إدخال اللغة الكردية فى التعليم، وفى الصحف والمطبوعات، والبث التليفزيونى والإذاعى، كما أفرجت عن سجناء أكراد كان فى مقدمتهم النائبة الشهيرة ليلى زانا والتى حكم عليها سابقا بالسجن مدى الحياة لأنها أدت القسم الدستورى فى البرلمان باللغة الكردية، وبالفعل حدثت انفراجة فى تلك القضية داخل تركيا، ولكن مازال زعيم حزب العمال عبد الله أوجلان سجينا، ويوجه المشهد السياسى من خلف القضبان. أكراد إيران: ثانى المجموعات الكردية عددا، وكان لهم فضل السبق فى تأسيس الأحزاب الكردية، فأسست الحزب الديمقراطى الكردستانى فى أربعينيات القرن الماضى، وفى عام 1946 قام هذا الحزب وبدعم سوفييتى بتأسيس أول جمهورية كردية فى مهاباد فى إيران، وشارك أكراد العراق فى الدفاع عن تلك الجمهورية، ولم ينته هذا العام إلا وقد اتفقت إيران مع الاتحاد السوفيتى على تسوية ما بينهما من مشكلات، فرفع الاتحاد السوفيتى دعمه عن تلك الجمهورية (العامل الخارجى) فانهارت، وأعدم زعيمها (قاضى محمد) مع رفاقه، ودخلت الحركة الكردية فى كافة الدول بعد انهيار مهاباد إلى حالة من اليأس، فهرب من هرب ومن سلم نفسه طواعية لسلطات بلاده نفذ فيه حكم الإعدام، وقامت الثورة الإيرانية والتى شارك فيها الحزب الديمقراطى الكردستانى بقوة، ولكن بعد انتصار الثورة وسيطرة التيار الإسلامى الشيعى على مقاليد الحكم فى إيران، أدار ظهره للحركة الكردية وتنكر لمطالبها، بل إنه فى عام 1992 وخلال مفاوضات بين الحزب والحكومة فى فيينا، قامت الاستخبارات الإيرانية باغتيال زعيم الحزب الديمقراطى الكردستانى عبد الرحمن قاسملو. أكراد العراق: هم المجموعة الكردية الثالثة فى الترتيب العددى، لكنها المجموعة الأوفر حظا فيما تمكنت من تحقيقه من تطور سياسى يقترب من الاستقلال، وكان للعامل الخارجى الدور الأكبر فى مسار هذه الحركة فى حين أن العامل الداخلى كثيرًا ما كان له أدوار سلبية، نتيجة للصراعات الداخلية بين أحزابها حتى وقت قريب، وكانت بداية تأسيس الأحزاب السياسية الكردية فى العراق،هو الحزب الديمقراطى الكردستانى فى أربعينيات القرن الماضى على غرار الحزب الديمقراطى الكردستانى فى إيران، وانضوت كافة الكوادر الكردية تحت لواء هذا الحزب، والذى حمل فى طياته منذ نشأته تيارين، التيار العشائرى والذى يقوده الملا مصطفى البارزانى، ذلك التيار الملتزم بقيم العشيرة، وتيار المثقفين الذين يحملون أفكار الحداثة وكان يقودهم إبراهيم أحمد (والد زوجة جلال الطلبانى) ثم جلال الطلبانى بعد ذلك، وبعد توقيع اتفاقية الجزائر بين إيرانوالعراق، وانهيار الحركة الكردية نتيجة لها، هنا انفصل جلال الطلبانى ومجموعته عن الحزب الديمقراطى الكردستانى، وأسس حزب الاتحاد الوطنى الكردستانى، ونشأت بين الحزبين مشكلات وصراعات بعضها دموى، لدرجة أن مسعود البارزانى (الذى خلف والده فى زعامة الحزب) تواصل مع عدو الحركة الكردية اللدود (صدام حسين) عام 1996 واستعان بقوات الحرس الجمهورى التى مكنته من طرد ميليشيات جلال الطلبانى من أربيل بل من كردستان العراق بأسرها، إلى أن تمكن جلال الطلبانى بإسناد إيرانى من العودة وأقتسام المنطقة مع غريمه مسعود البارزانى، وظلت المنطقة منقسمة على نفسها، إلى أن تم توحيدها من جديد وبجهود أمريكية (زلماى خليل زاده) فى إطار التحضير للحرب على نظام صدام حسين. حزب البعث: أن من الأفضل أن يفاوض أبناء شعبه بدلا من أن يمكن إيران من تحقيق مطالبها، فدخل فى مفاوضات مع الحركة الكردية انتهت بالاتفاق على إصدار بيان الحكم الذاتى للأكراد فى 11مارس آذار 1970، والذى تقرر فيه تحديد فترة 4 سنوات كفترة انتقالية يتم بعدها تطبيق الحكم الذاتى. وخلال تلك الفترة: كان من الواجب زرع الثقة بين الطرفين، ولكن الذى حدث كان على العكس، فقد جرت محاولة لاغتيال الملا مصطفى البارزانى وأخرى لاغتيال نجله إدريس، يضاف إلى ذلك الخلافات حول العديد من المسائل العقدية مثل صلاحيات مؤسسات الحكم الذاتى وعائدية بعض المناطق مثل كركوك، لذلك ومع اقتراب الفترة الانتقالية من نهايتها، بدأت الحرب من جديد، وكاد الجيش العراقى يتعرض للهزيمة بسبب الإسناد الواسع لإيران الشاه للحركة الكردية، هنا اضطر العراق للتوقيع على اتفاقية الجزائر والتسليم لإيران بمطالبها التاريخية، وانهارت الحركة الكردية من جديد، وتشتت قياداتها، لكن متغيرًا جديدًا ظهر فى الأفق بقيام الثورة الإسلامية فى إيران، وما جرى من أحداث ذكرناها فى مقالنا السابق، واشتعلت الحرب بين البلدين، واستغلت الحركة الكردية ظروف الحرب فنشطت من جديد، وعرضت الجيش العراقى لخسائر عديدة، وأصبحت كافة المدن فى الشمال العراقى غير آمنة، بل إن الحكومة فقدت سيطرتها على الريف الكردى، هنا قررت الحكومة العراقية إلغاء كافة القرى الكردية وتحريم أى تواجد إنسانى فيها، وقامت بحرق وتدمير تلك القرى، بل وقامت بعمليات واسعة بالغازات الكيماوية السامة فى عمليات أنفال 1 وأنفال 2 وحلبجة، وسط صمت مطبق عالمى، ومع انتهاء الحرب العراقيةالإيرانية عام 1988 تعاملت الحكومة العراقية بشكل يقترب من الجنون ضد المجموعات الكردية، وكأنها كانت تستهدف الإبادة الكاملة لهم، ثم يحدث المتغير الأهم وهو غزو الكويت ثم هزيمة الجيش فى عملية عاصفة الصحراء وتحرير الكويت، وتوجهت قوات الحرس الجمهورى إلى الشمال الكردى، وأيقن الأكراد بما سيحدث لهم، ففروا إلى جبال إيرانوتركيا، وسط الطين والثلوج والمطر،هنا تحرك الضمير العالمى (نقارن ذلك بما حدث مؤخرًا عندما لم يتحرك ذلك الضمير إلا عندما اقتربت داعش من مدينة أربيل)، فصدر قرار مجلس الأمن الدولى 688 الخاص بحماية المدنيين، ومن بعد هذا القرار قررت قوى التحالف الدولى، إقامة منطقة آمنه للأكراد شمال خط العرض (كما يطالب أردوغان بذلك حاليًا)، وفى ظل ذلك تمكن الأكراد من إقامة ما يقترب من الدولة، أصبح لهم برلمان منتخب ورئاسة وحكومة ، وإدارات محلية، وعندما بدأت العملية السياسية بالعراق بعد سقوط نظامه، كان الأكراد أكثر حنكة من كافة الأطراف العراقية، فضمنوا الدستور موادًا تحفظ لهم حقوقهم، وتمكنهم من حصد المزيد ، وكانوا دائمًا رمانة الميزان فى العملية السياسية فى العراق. أكراد سوريا: هى المجموعة الأقل عددًا بين كافة المجموعات الكردية الأخرى، وهى أيضًا التى لم يكن لها أى صوت مسموع وحتى وقت قريب، المرة الوحيدة التى حظيت بالاهتمام العالمى عندما نشبت الأزمة الخطيرة بين تركياوسوريا حول وجود مقرات وقواعد لحزب العمال الكردستانى على الأراضى السورية، وتدخل الرئيس المصرى الأسبق مبارك لنزع فتيل تلك الأزمة، فأغلقت السلطات السورية مقرات هذا الحزب على أراضيها وغادرتها قياداته، وكانت السلطات السورية قد قامت فى السابق بعملية هندسة سكانية أدت إلى محاصرة الأكراد بحزام أمنى عربى يفصلهم عن أكراد العراق وأكراد تركيا، ويوجد ضمن المجموعة الكردية السورية طائفة تسمى بالمكتومين، وبداية حكايتهم أنه بعد انفصال سوريا عن مصر، قامت السلطات السورية بجمع هويات الأكراد، ثم قررت أن مجموعة منهم وصل عددها حينئذ إلى ربع مليون نسمة هم من المتسللين، وحرمتهم من كافة حقوق المواطنة، هؤلاء توالدوا ووصل عددهم حاليا إلى ما يقرب من 750000، ومشكلة هؤلاء ليست كباقى مشكلات المجموعات الأخرى، إنها مشكلة وجود، ونجحت الإجراءات الأمنية الصارمة فى كتم أى صوت كردى يتململ من هذا الظلم الفادح، إلى أن انفجر الغضب عارمًا بعد الاحتلال الأمريكى للعراق، ووقوف الجندى الأمريكى على الحدود متربصًا بالنظام السورى، وتشجع الأكراد وكانت ثورة غضبهم فى أحداث مدينة القامشلى، ففى شغب عادى عقب مباراة لكرة القدم انطلقت الجماهير الغاضبة للتعبير عما تحمله صدورهم من غضب تاريخى، وكانت صدامات بين الجماهير وقوى الأمن، أسفرت عن دمار وقتلى، هنا ظهرت قضية الأكراد فى سوريا من جديد، ومع نشوب الحرب الأهلية فى سوريا كان لابد للأكراد أن يكون لهم نصيب فى تلك الحرب، وكإجراء تكتيكى من جانب النظام، قام بسحب قواته من المنطقة الكردية كى يتفرغ لمواجهة الجيش الحر من ناحية، ويعمل على تفتيت المعارضة من ناحية أخرى، وبالفعل سيطر حزب الاتحاد الديمقراطى الكردى على المنطقة، وقام زعيمه صالح مسلم بإعلان الإدارة الذاتية فى المنطقة، لكن الحدث الأهم هو ما يحدث مؤخرًا والذى أخذ اهتمام العالم. هذا هو حال كافة الأطراف الكردية حتى ظهور داعش، وما أدت إليه من تعقيدات فى المشهد.