كثيرًا ما نقرأ أو نسمع الآراء ووجهات النظر التى تقول: إن الذين بنوا آثار مصر القديمة وشواهد حضارتها الخالدة ليسوا هم المصريون القدماء وإذا كنا سنتجاوز - من باب الازدراء عن آراء «مناحم بيجن» «1913 - 1992م» ومن سبقه من الصهاينة - القاتل: إن الذين بنوا أهرامات مصر هم أسلافهم العبرانيون. لأن تلاميذ الدراسات القديمة يعلمون سبق الأهرامات فى الوجود على ظهور العبرانيين على مسرح الحياة،. إذا كنا سنتجاوز عن هذا «الرأى فإن هناك آراء أخرى - شبيهة - وقفت وراء أصحاب نفس الأهداف، وإن يكونوا قد نسبوا بناء هذه الآثار المصرية إلى أقوام هم أبناء حضارات أخرى، جاءوا إلى الأرض من كواكب أخرى، فبنوا هذه الآثار ثم عادوا إلى هناك!. ورغم اعتقادنا بأن هذه الآراء تفضى فى النهاية - بصرف النظر عن نوايا أصحابها - إلى هدف محدد هو تجريد الإنسان المصرى - ومن ثم العربى والمسلم من ثقته بالذات، لأنه إذا كان ما يفخر به ليس من صنع أسلافه، وإذا كان حاضره غير مشرف، فليس له أن يتخذ من ماضيه الحضارى زادًا للنهضة، وتجاوز ما يجابهه من تحديات، فهذا المجد ليس للسلف، ومن ثم فلاحق للخلف أن يتطلع إلى معالى الأمور والأهداف، رغم اعتقادنا بأن هذا هو الهدف الحقيقى والخبيث من مثل هذه الآراء التى تريد أن تجعل مصر مجرد متحف لأمجاد لم يصنعها أهلها، كما أرادت أن تجعل من العرب مجرد نقله ونساخ حضارة اليونان!. فإننا نؤمن بأن هناك «مشكلة» تواجه الناظر إلى هذه الآثار.. ومالم تحل «المشكلة» فستظل مناخا صالحا لمثل هذه الآراء. فالعلماء يكادون يجمعون على أن ظاهرة الطوفان - طوفان نوح عليه السلام - قد حدثت حوالى سنة 3900 ق.م.. وبعد هذا التاريخ بسبعمائة فقط كان حكم الملك مينا سنة 3200 ق.م، الذى وحد مصر، والذى شهد عصره مظاهر للحضارة وشواهد عليها يستحيل أن تكون ثمرة لسبعة قرون» فقط، ذلك أن بدءها، وتطورها،ونضجها لابد له من أضعاف أضعاف هذه القرون السبعة.. وهنا، وأمام هذه المشكلة يأتى الذين ينسبون هذه الحضاة وآثارها إلى الذين هبطوا من السماء، أو إلى الخبراء الأجانب!.. أو إلى «الشياطين» أو «الجن» أو «العماليق»، كما فعل عدد من المؤرخين العرب الذين وقفوا فى ذهول أمام هذه الآثار! ومن بين الآراء الأكثر «عقلانية ومعقولية» لتفسير هذه الظاهرة وحل إشكالها، ذلك الذى يقول أصحابه: إن الطوفان - طوفان نوح - لم يكن نهاية لما سبقه من تراث حضارى، وأن الذين بدأوا من بعده لم يبدأوا من الصفر أو الفراغ.. فقبل الطوفان كانت هناك حضارات ونبى الله نوح - عليه السلام - والذين آمنوا معه قد حملوا معهم - غير النباتات والحيوانات والحشرات التى جمعوا منها من كل زوجين اثنين.. حملوا ميراثا حضاريا من مجتمع ما قبل الطوفان.. فلما استقر منهم من استقر بعد الطوفان بمصر، تواصلت المسيرة الحضارية، وجاء دور المصريين وأثر مصر ونيلها ومناخها فى تنمية هذا التراث الحضارى الذى قفز وبلغ ما بلغ واحدث ما قام على أرضها من آثار. لكن يبقى السؤال: إذا كان قدماء المصريين قد عرفوا أسرار علوم تلك الحضارة العظيمة، فلم لم يرثها خلفاؤهم؟.. ولماذا كانت الفجوة.. بل الهوة بين السلف والخلف فى هذا الميدان؟!. وفى الجواب عن هذا السؤال، تأتى الإشارة إلى النظام الطبقى المغلق والصارم الذى ساد وتقدس فى ذلك المجتمع قديما، فالعلوم كانت أسرارا عند الكهنة وحدهم، لا تخرج من نطاقهم، حتى ولا للفرعون ذاته!. فلما زحف الغزاة على مصر، كتم الكهنة أسرار العلوم والحضارة والتقدم عن هؤلاء الغزاة، وقف وطنى مقاوم للغزو والغزاة فى الوقت الذى ظلت فيه الأسرار محجوبة عن العامة، كموقف طبقى.. فدفنت هذه الأسرار مع هؤلاء الكهنة، وذهبت بذهابهم ومن ثم حدثت الفجوة بين الخلف والسلف.. فانفتحت الأبواب للشعوذات الفكرية والتفسيرات الخرافية، التى نسبت وتنسب هذا الإعجاز الحضارى القديم إلى الشياطين.. أو إلى الذين هبطوا من السماء!.