فيلم «grace of Monaco» عمل ذكى ومؤثر، اختار الفيلم الذى كتب له السيناريو آراش آميل وأخرجه أوليفييه داهان سنة فاصلة فى حياة أميرة موناكو ونجمة هوليوود السابقة جريس كيلى، وفى حياة الإمارة الصغيرة أيضا، ذلك العام الذى تفكر فيه جريس فى العودة للسينما فى فيلم من إخراج هيتشكوك، فى نفس الوقت تتعرض فيه الإمارة إلى التهديد بالغزو الفرنسى بسبب المنافسة الاقتصادية، ومن خلال هذا المزج الفريد بين الخاص والعام، يقول الفيلم كل شىء عن الصراع بين جريس ونفسها، وكيف حسمت الصراع بأن تنحاز لعائلتها ولشعبها الصغير، كما يقول أيضا الكثير عن خلطة الفن والسياسة والبيزنس والسلطة، ينتهى الفيلم بانتصار جريس على نفسها، وانتصار الإمارة فى معركتها من أجل أن تحافظ على الاستقلال، يمتزج الخاص بالعام أخيرا، وتندمج عناصر واقعية بأخرى خيالية، ويتحول دور الأميرة إلى أهم أدوار جريس كيلى، تصبح حياتها قصة خرافية كما كانت تحلم، وينتهى الخيط الفاصل بين الشاشة والواقع، وهذا بالضبط أحد أهم مفاتيح قراءة هذا العمل البديع. يستهل الفيلم مشاهده بمنظر لطريق وسيارات، تتحرك الكاميرا فنكتشف أن هذا المنظر ليس سوى شاشة العرض الخلفى التى تعرض فى الاستديو ما يوحى أنه طريق حقيقى، إنها جريس (نيكول كيدمان) داخل سيارة وهى تصور آخر لقطاتها فى هوليوود قبل أن تودع الجميع، بعد أن اختارها الأمير رينيه (تيم روث) لتكون عروسه، تتابعها الكاميرا كممثلة بدرجة أميرة وهى تخرج من البلاتوه، نشاهد لقطات وثائقية لرحلة السفينة التى تضم الأمير و نجوم هوليوود يحتفلون معه بالزفاف، ابنة ولاية فيلادلفيا التى أصبح والدها مليونيرا بسبب عمله فى مجال البناء، اختارت أن تعتزل لتصبح أميرة فى إمارة صغيرة للغاية، سكانها لايتجاوزون وقتها بضعة آلاف، وداعا للسينما وأهلا بالواقع، ولكن بعد ست سنوات تقريبا، وفى ديسمبر من العام 1961، يقوم المخرج الشهير ألفريد هيتشكوك بزيارة الأميرة جريس فى قصرها، يعرض عليها دور البطولة فى سيناريو فيلم «مارنى» مقابل مليون دولار، يلاحظ هيتشكوك أن عينى الأميرة متعبتان، أنجبت طفلين، وتعيش حياة رسمية، وتتابعها وصيفة صارمة تدعى مادج، من الواضح أن جريس حبيسة فى قفص ذهبى، تعتبر الدور الجديد فرصة للحرية، نلاحظ حفاوتها بالمخرج الكبير، وسؤالها عن زميلها النجم كارى جرانت. على الجانب الآخر، يبدو الأمير رينيه فى مأزق حقيقى، مندوب الرئيس الفرنسى ديجول مستاء جدا من نجاح الإمارة الصغيرة فى جذب 103 من رجال الأعمال الفرنسيين الذى ذهبوا إلى موناكو لأنها لا تفرض ضرائب من أى نوع على أنشطتهم التجارية، اعتبر ديجول ذلك استنزافا لاقتصاد فرنسا، كان تحذيره واضحا: إما أن تفرض موناكو ضرائب تدخل إلى الخزانة الفرنسية، وإما تقوم فرنسا بالاستيلاء على موناكو، وضمها إليها، هناك مشكلة حقيقية يبحثها رينيه مع رجال أعمال كبار يعيشون فى موناكو، ويستفيدون بالبيزنس فيها، على رأسهم الملياردير أوناسيس. عندما تعرض جريس على رينيه فكرة عودتها للسينما، يترك لها القرار فى البداية، ولكنه يصف هذه العودة بأنها مغامرة، تتكتم جريس الخبر، ولكنه يتسرب إلى الصحف العالمية، تشعر جريس بالحرج وخاصة بعد انتقاد أهل موناكو لعودة أميرتهم إلى السينما، تعانى جريس أصلا من شقيقة الأمير إنطوانيت، ومن زوجها الطموح، تعانى كذلك من صرامة الوصيفة مادج، ومن انهماك الأميرات فى تنظيم حفلات بدلا من توفير المال من أجل تجديد مستشفى للأطفال، لاتجد جريس وسيلة للحرية إلا بأن تقود سيارتها بجنون، لا تفعل شيئا سوى تصوير طفليها كارولين وألبرت، وليس لها من صديق سوى الأب فرانسيس تاك (يلعب دوره ببراعة واقتدار الممثل فرانك لانجيللا)، هو الوحيد الذى تفضفض له عن معاناتها، تقول إنها أخطأت بالزواج من أمير، كان عليها أن تعرف ما يعنيه ذلك من قيود، ينصحها بأن تنتقل من ممارسة أدوارها على الشاشة، إلى القيام بأعظم دور لها فى الواقع، دورها كأم وكأميرة، يقول لها إن الحب الحقيقى يستلزم أداء الواجب تجاه عائلتها، تتحول حياة جريس منذ تلك اللحظة، تتلقى دروسا لتعلم الفرنسية، تنزل إلى الناس فى الشوارع والأسواق، تنجح فى اكتشاف مؤامرة لشقيقة رينيه وزوجها مع ديجول، إنهما يساندان تهديدات الرئيس الفرنسى، فى مقابل أن يحصلا لابنهما على العرش، تلعب جريس دورا مهما فى مؤتمر لممثلى الدول الأوروبية فى موناكو، ولكن محاولة اغتيال ديجول تفسد كل شىء، تفكر جريس فى عقد مؤتمر للصليب الأحمر الدولى فى أكتوبر من العام 1962، تدعو ديجول، تصبح جريس نجمة الإحتفال، تلقى خطبتها الطويلة المهمة، تقول إنه ليس من حق أحد أن يسحق الحب والجمال ( فى إشارة إلى الإمارة الصغيرة)، تؤكد أنها تزوجت رينيه لأنه كان يمثل بالنسبة لها فارس الأحلام، دموع صادقة تسقط من عينيها، تتحدث عن حبها لعائلتها ولشعبها، تبدو غير متكيفة مع المكان والحياة المخملية، ولكنها حسمت الصراع نهائيا، اختارت أن تقوم بدور فى الواقع بديلا عن أدوار على الشاشة، قررت أن تصنع أسطورتها الخاصة بدلا من أن تجسد حكايات خيالية فى السينما، أرادت أن تستغل موقعها لعمل الخير، تقول عناوين النهاية إن جريس لم تعد أبدا إلى هوليوود، وأن ديجول فك الحصار عن موناكو فى مقابل فرض الضرائب على نشاط رجال الأعمال. قدمت نيكول كيدمان أحد أفضل أدوارها، نجحت فى تلوين وجهها وصوتها بتعبيرات مختلفة ومتنوعة، من الإحباط إلى القوة ومن الحب إلى المكر والدهاء، حافظت معظم الوقت على عينين حزينتين، منح المخرج أوليفييه داهان الكثير من اللقطات القريبة والمكبرة الذى نقلت أدق المشاعر والأحاسيس، كما حاصرها فى النصف الأول من الفيلم بإطارات المرايا والنوافذ والأبواب، فصنع بذلك إطارا آخر داخل إطار الصورة الأصلى، وكأنها فى سجن داخل سجن، وفى لقطة أخرى رائعة يجعل جريس فى عمق الصورة محاصرة بألوان صاخبة وفاقعة، هى واضحة ولكنها تبدو محتنقة بهذا العالم المخملى الملون وغريبة عنه، الصورةعموما فى هذا الفيلم من النعومة والجمال بحيث تبدو كأنها غير حقيقية، كأنه عالم خيالى آخر تعيشه جريس، وكانها انتقلت من أحلام السينما إلى أحلام أميرات الحواديت، شخصية جريس رسمت على الورق ببراعة، تقول فى أحد المشاهد إن والدها كان يكره نجاحها، ويراها أقل موهبة من أختها بيجى، نجحت نيكول فى الانتقال بسلاسة إلى شخصية أميرة قوية وجذابة تقتحم حصار الجنود الفرنسيين لتقدم لهم سلة فواكه، الصراع فى أحد أبعاده هو بين الحلم الأمريكى الذى تجسده جريس وأسرتها، والتقاليد الأوروبية العتيقة التى تجسدها موناكو، تلك الإمارة القديمة التى لم يستطع لويس الرابع عشر أو نابليون أو ديجول السيطرة عليها، نجحت جريس من خلال المكر والتصميم فى أن تفوز بدورها الجديد، لابد من الإشادة أيضا بأداء تيم روث، الذى قدم شخصية تجمع بين القوة والضعف، رينيه يحب جريس ولكنه أيضا رجل سياسة يريد الاحتفاظ بالعرش والسلطة، كما خطف فرانك لانجيللا الأنظار فى مشاهده القليلة، أداء واثق وراسخ، الأب فرانسيس سيترك موناكو، سيعود إلى أمريكا، ولكن لولاه ما حسمت جريس صراعها، وإذ يحمل الفيلم اسم «جريس أميرة موناكو»، وإذ نسمع فى الحوار أن الأميرة لها 137 لقبا آخر، فإن الفيلم يصنع من الخيال والواقع سبيكة متماسكة، وينتصر لأدوار الواقع فى مقابل أدوار السينما، ولكنه يعود ليصنع من وقائع حياة جريس فيلما خياليا نراه على الشاشة، فلا نستطيع أن نفرق بين ما حدث فعلا ومالم يحدث، ولا نستطيع أن نفرق بين دور جريس كأميرة فى هوليوود، ودورها كأميرة فى موناكو، حتى تدريبات البروتوكول لا تختلف عن تدريبات الممثل على التعبيرات المختلفة، وعندما يدخل عليها هيتشكوك يدهشه المكان الخيالى والقصر المنيف، يشعر أنه يشاهد فيلما فيقول لها : «هل أقول cut ؟!»، فيلمنا الممتع فى أحد أجمل معانيه هو تحية للفن وللسينما صانعة الأساطير، والتى جعلت من نجمة امريكية أميرة على العرش فى الواقع، أحب الأمير صورتها على الشاشة، وصنعت هى أسطورتها فى موناكو بخيال الفن وموهبة الممثلة القادرة على أداء كل الأدوار.