ان صنع السلام يتطلب شجاعة تفوق بكثير شجاعة خوض الحروب.. كلمات قليلة ولكنها تحمل رسالة قوية إلى كافة قادة العالم النازعين إلى الدماء والخراب والدمار .. إنها كلمات ستظل راسخة فى ذاكرة التاريخ باسم البابا فرانسيس الأول بابا الفاتيكان والذى أقدم على مبادرة تاريخية وغير مسبوقة بدعوته رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز إلى الفاتيكان الأسبوع الماضى لصلاة تاريخية من أجل السلام. ففى أول صلاة من نوعها فى الفاتيكان، ووفق تسلسل يحترم التاريخ، قرأ الحاخامات اليهود والكرادلة المسيحيون والأئمة المسلمون نصوصا من العهد القديم والعهد الجديد والقرآن تتحدث عن الخليقة التى تجعلهم جميعا إخوة، والصفح، والتضرع من أجل السلام، وذلك باللغات الايطالية والانجليزية والعبرية والعربية. ورافقت الصلوات مقطوعات موسيقية، ووقف المرتلون فى قطعة مثلثة من حدائق الفاتيكان كموقع «محايد» لا يحمل أى رموز دينية، وشارك البابا برفقة عباس وبيريز فى تلاوة الصلوات. وخلال كلمته بعد ختام الصلاة التى استمرت ساعتين، حض البابا الرئيسين الفلسطينى والاسرائيلى على إحلال السلام فى الشرق الوسط، مطالبا إياهما بالاستجابة لشعبيهما التواقين للسلام، وإيجاد «القوة لمواصلة الحوار بشجاعة»، ونبذ الاقتتال واحترام الاتفاقيات وتفادى الاستفزاز. وأضاف البابا فرانسيس أن السعى إلى السلام «عمل من أعمال المسئولية العليا أمام ضمائرنا وشعوبنا» مشيرا إلى أن الملايين فى مختلف أنحاء العالم ومن كل العقائد يصلون معهم من أجل السلام، وعليهما الاستجابة لدعواتهم لكسر مسلسل الكراهية والعنف. وتابع أن الأطفال الذين كانوا الضحايا الأبرياء للحروب والصراعات جعلوا السعى من أجل السلام أمرا محتما، قائلا إن «ذكرى هؤلاء الأطفال تغرس فينا شجاعة السلام والقوة للاستمرار بشجاعة فى الحوار». ومن جانبه، دعا الرئيس الفلسطينى محمود عباس إلى التوصل إلى «سلام شامل وعادل» يحل على ربوع المنطقة كلها، مشددا على أهمية السلام «لنا ولجيراننا» موضحا أنه من حق الشعب الفلسطينى أن «يعيش بكرامة وحرية فى وطنه السيد المستقل». أما نظيره الإسرائيلى شمعون بيريز فتحدث بدوره عن أهمية تحقيق السلام لفائدة الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، مشيرا فى كلمته أمام البابا ومحمود عباس إلى أنه من الضرورى «تحويل رؤيتنا الدينية إلى واقع من الازدهار ورغد العيش». وفى نهاية الحدث شارك الحبر الأعظم كلا من عباس وبيريز بزراعة شجرة زيتون فى حديقة الفاتيكان، تعبيرا عن أملهم أن يحل السلام، ثم تصافح أفراد الوفدين الفلسطينى والإسرائيلى وعزفت الموسيقى. ويعتقد مراسلون أن إقامة مثل هذا الحدث سترفع من مكانة البابا باعتباره شخصا لا تمنعه القواعد الدبلوماسية والعقائدية من التحرك إذا تعلق الأمر بدعم قضايا السلام. وبالرغم من أن البابا قال إنه لا نية لديه للعب دور «وساطة» فى محادثات السلام بين الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى والتى تعثرت فى ابريل الماضى ، مؤكدا أن هذا الأمر هو «مهمة الدبلوماسيين» وأن مبادرته هى مجرد مبادرة روحية يأمل أن تؤدى إلى استئناف عملية السلام بينهما، قائلا إن «الصلاة تستطيع تحقيق كل شئ لنستخدمها لإحلال السلام فى الشرق الأوسط والعالم أجمع»، إلا أن محللين سياسيين أشاروا إلى أن هذا الاجتماع بمثابة بداية لدخول البابا فى أدوار دبلوماسية حيث إنه مهتم بشكل كبير بالسياسة وقارنوه بغيره ممن استلموا المنصب البابوى والذين لم يخرجوا عن أدوارهم ليتدخلوا بالسياسة. وبالنسبة لنتائج الاجتماع فيما يتعلق بعملية السلام، قال محللون إنه من غير المتوقع أن يؤدى إلى إطلاق عملية السلام بسرعة وإن نتائج الاجتماع قد تكون طويلة الأمد، خاصة أن الرئيس الإسرائيلى لا يملك سلطات فعلية ولا دور له فى المفاوضات كما أنه سيغادر منصبه بنهاية هذا الشهر. وفى سياق تناول الصحف العالمية لهذا الحدث التاريخى، أشارت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية فى تقرير لها إلى تشكك الكثير من المحللين المتخصصين فى شئون الشرق الأوسط فى إمكانية أن يساعد هذا الاجتماع الروحى فى إحياء عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية المتوقفة. وتابعت الصحيفة أنه بالرغم من أن بيريز حصل على موافقة مجلس الوزراء الإسرائيلى على تلبية دعوة بابا الفاتيكان، فإن البعض فى إسرائيل شعر بالقلق من التقارب مع عباس فى هذا التوقيت، مشيرة إلى مواصلة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو انتقاده للحكومة الفلسطينية الجديدة خلال اجتماع لمجلس الوزراء فى القدس فى الوقت الذى كان فيه بيريز على وشك الوصول إلى الفاتيكان. ومن ناحية أخرى، قالت الصحيفة فى تقرير آخر عن الحدث إنه حتى لو أن محللين قليلين هم الذين يتوقعون حدوث أى تقدم فى عملية السلام بعد هذا الاجتماع الروحى، فإن الاجتماع يظهر كيف أن البابا فرانسيس يحاول أن يجعل من الفاتيكان لاعبا دبلوماسيا مستقلا على الساحة العالمية، مشيرة إلى قول المحللين إن وضع فرانسيس كأول بابا للفاتيكان من أمريكا اللاتينية يضفى عليه شيئا من المصداقية فى العالم غير الغربى ويساعد فى أن يكون للفاتيكان تأثير على مجموعة من القضايا والنزاعات السياسية على مستوى العالم. أما موقع «دويتشه فيله» الإخبارى الألمانى فقال إن فتح البابا فرانسيس لأبواب الفاتيكان أمام ضيوفه من الشرق الأوسط ترجع أهميته بالتأكيد إلى رمزية الحدث أكثر مما ترجع إلى أثر ذلك على إحراز تقدم حقيقى فى عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية. وفى تحليلها لكلمتى الرئيسين الفلسطينى والإسرائيلى بعد ختام الصلاة من أجل السلام، لفتت صحيفة «آيريش تايمز» الإيرلندية إلى أن خطابيهما أظهرا الكثير بشأن الصعوبات التى تواجه عملية السلام حيث أكد كل منهما على أهمية القدس لشعبيهما وهى قضية أساسية فى النزاع بين الطرفين.