على كثرة ما شاهدت من أفلام عربية وأجنبية كئيبة ومؤلمة، فإن فيلم «الخروج للنهار»، أول الأفلام الروائية الطويلة للمخرجة هالة لطفى، هو الأكثر إيلاما فى هذا الباب، ليس لأنه فيلم يتحدث عن الموت، ولكن لأنه يضغط على أعصابك طوال الوقت، مستهدفا تفاصيل معاناة زوجة وابنتها، اضطرتهما الظروف لرعاية الزوج/ الأب المشلول العاجز، تبدو المشاهدة نفسها، رغم وجود عناصر رائعة كالتصوير والإخراج والديكور والملابس وشريط الصوت والصمت، كتجربة مزعجة،وكأن هناك من أراد أن يتخلص من كآبته هو، بتصديرها إلى المشاهد، وهو أمر غير عادل بالمرة. من حق الفنان بالتأكيد، وخصوصا إذا كان فى موهبة هالة، وفريقها المميز، أن يختار ما يحكى عنه، وبالطريقة التى يفضلها، ولكن من حق المشاهد بالمقابل أن يقبل أو يتأفف. اختارت المخرجة الشابة واقعية خشنة، وإيقاعا بطيئا مناسبا لموضوعها، وحركة كاميرا متأملة (مدير التصوير الشاب الرائع محمود لطفى)، عددا محدودا للغاية من أماكن التصوير( من شقة الأسرة البائسة إلى المستشفى مع مشاهد قليلة فى الميكروباص والشوارع)، عددا محدودا أيضا من الممثلين، ومساحات واسعة من الأسود والرمادى تكتسح الصورة، حتى أحزمة النور التى تتسلل إلى الشقة الصغيرة بياضها بلون الكفن، ربما لم يكن ينقص فيلمها بهذه الصرامة إلا استكمال الطقوس بتفاصيل الوفاة، وتغسيل الميت، ودفنه، على أن تظهر فى اللقطة الأخيرة كلمة «وحدوووووه»! مشكلة «الخروج للنهار» أن كل مواهب ورؤية صناعة، وهى كبيرة وعظيمة، تحولت إلى فن لتصدير الحزن بدلا من أن تكون وسيلة لتأمله، بدا حتى أن هذا الطقس التراجيدى القوى والمؤثر، لا يحقق التطهير بإثارة مشاعر الخوف والشفقة بأن نكون ذات يوم فى مثل هذا الموقف العاجز، ولكنه تجاوز ذلك بأن يثير ألما حقيقيا بالإلحاح المتواصل على معاناة الآخرين، لا يوجد فيلم تفتح فيه النوافذ والبلكونات بهذه الكثرة، ومع ذلك تشعر أن الظلام أقوى وأعظم من أن يتحرك، مثل حائط صلد لايمكن أبدأ أن تفتح فيه أى ثغرة. هناك مشكلة أخطر، الفيلم بالأساس عن المعاناة الجسدية للأب القابع فى سريره، وحضور الجسد فى الفيلم واضح وعارم (نقل الأب من مكان إلى آخر وتغيير ملابسه وعلاج قروح ظهره)، ولكنك ستلاحظ حتما أن أبطال الفيلم الثلاثة يعانون أيضا من اكتئاب حقيقى: الأب (أحمد لطفى) يرفض تناول الطعام، يقبل فقط الأدوية، نوع من الانتحار البطئ الذى سيقوده إلى المستشفى، فى عينيه انكسار المكتئب، لاتلمع عيناه إلا عندما تُسمعه زوجته أغنية أم كلثوم المؤلمة أيضا «أنا وأنت ظلمنا الحب»، أما الابنة سعاد (التى لا علاقة لها بالسعادة والتى تلعبها دنيا ماهر) ففى مظهرها الأشعث ما يؤكد هذا الاكتئاب، شعرها المنكوش، تأففها من أمها، لحظات صمتها، عصبيتها عندما يرفض الأب الطعام، قلقها من عدم قدرة الأم على شراء مرتبة صحية تحمى والدها من القروح، لديها أيضا حالة إحباط إضافية بسبب انصراف من تحب عنها منذ شهور، يتهرب منها عندما تتصل به تليفونيا، من الواضح أيضا أنه يرفض مقابلتها. الأم كذلك تبدو عليها مظاهر الاكتئاب، هى ممرضة واسمها (وياللسخرية) حياة، تلقى كلماتها بقرف شديد، تصحو لتنام، منهكة وعصبية، تحضر لزوجها ملاءات بيضاء من المستشفى لمرضى أو أموات، تعانى عبئا روحيا تتضاءل أمامه متاعب الزوج الجسدية، لا تتحرك إلا عندما يزورهم ابن اختها المجند فى الجيش، الضيف أيضا صامت وكئيب، ربما يستشعر الحرج بأن يجد نفسه وسط هذا الصوان للعزاء الذى تجسد فى صورة شقة يسكنها الحزن. لا تظن أن خروج سعاد من الشقة لزيارة صديقتها نعمات سيخفف شيئا من هذه القتامة، فى الميكروباص، ستقابل بالصدفة فتاة غريبة، تقول إنها ملبوسة، زوجة والدها عملت لها عملا، تحاول الذهاب إلى أحد القساوسة فى حلوان لعلاجها، الفتاة مضطربة وقلقة لأنها فى سن السادسة والعشرين ولم تتزوج، يبدو أن هدف المشهد الإسقاط على تأخر زواج سعاد الأكبر سنا، تحاول سعاد مقابلة الشاب، تخبره تليفونيا أنها يمكنها انتظاره ساعة أو اثنتين دون جدوى، لا تهنأ بالخروج، تسأل عن سعر مرتبة صحية لأبيها، تذهب لزيارة الأب الذى نقلته الأم إلى المستشفى إثر سقوطه من فراشه. تلاحظ الأم تسريحة شعر ابنتها عند الكوافير، ترفض أن تقيم معها فى المستشفى، تنزل الابنة من التاكسى فى الحسين، تستعرض وجوه آخر اليوم المتعبة، تستقل سيارة ميكروباص، لم يعد معها سوى جنيه واحد، تشتبك مع السائق الكئيب والمتأفف أيضا، تنزل وتسترد الجنيه، تسير وحيدة، تسمع بعض الأناشيد، تجلس وحيدة على حافة الماء، ربما تكون هذه اللقطات هى الأجمل والأكثر تفاؤلا فى الرحلة كلها، عندما تعود إلى المنزل تجد أمها وهى تقوم بتنجيد مرتبة الأب الملوثة، تسأل الابنة عن مكان الدفن، ومكان مقابرهم، وتسند رأسها على كتف أمها. يوم كامل وصباح، ونحن نتابع معاناة شخصيات مكتئبة فى لقطات طويلة، وبتفاصيل كاملة، لا أظن أن وفاة الأب سيغير شيئا كما تقترح النهاية، الأم وابنتها مرضى بالروح وليس بالجسد، وهذا أخطر وأصعب، تنتهى هالة لطفى إلى أن الموت انعتاق وحرية وراحة، خروج للنهار كما يقول كتاب الموتى الفرعونى، وكأن العذاب الحقيقى هو الحياة لا التخلص منها، الحقيقة أننا رأينا الأم وابنتها فى حالة موات وعجز وفشل فى الإحساس بالحياة تماثل حالة الأب سواء بسواء، يعنى كل ذلك أنك أمام معالجة سوداوية تماما، يزيد من تأثيرها أنها نقلت إليك عبر فريق تمثيل جيد، وبإدارة مخرجة تمتلك أدواتها، اختارت هالة لطفى ألا تكون هناك موسيقى تصويرية على الإطلاق، لمسات الديكور حقيقية وبكل تفاصيلها، الكآبة والغبار والأثاث القديم والمطبخ القذر تستكمل الصورة، من النادر أن يتم تنفيذ لقطات طويلة بدون قطع بمثل هذا الإتقان، الملابس أيضا جزء من اللوحة المؤلمة، ألوان باهتة وأقمشة رثة وبسيطة، حتى ضجيج الشارع، يمنح المشاهد أصداء واقعية، الممثلون مميزون وخصوصا الراحل أحمد لطفى الذى لعب دور الأب العاجز، والممثلة التى لعبت دور فتاة الميكروباص الملبوسة،هناك تكديس وإلحاح على تجميع كل عناصر المعاناة فى خيط واضح، لم يقلل من تأثيرها محاولة الإيحاء ببعض بوادر الخروج فى مشهد النهاية. هالة لطفى مخرجة موهوبة، أحترم كثيرا تجربتها الأولى، أحترم أيضا مغامرتها بإنتاج فيلم مختلف، وأحترم بالتأكيد جهد كل العاملين معها، ولكنى أعتقد أن الفن أعمق وأهم وأصعب بكثير من التخلص من الاكتئاب بتصديره إلى الآخرين.