يشبه فيلم "الخروج للنهار" للمخرجة هالة لطفي، واقعنا، فهو يقترب من مرارته وألمه دون انتظار معجزات لتغييره، ربما يجد في نهايته صيغة لبصيص من الأمل، لكنه لا يبحث عنها متعمدًا، فعبر مشاهده الطويلة والحركة الثقيلة لممثليه، ينعكس اليأس من الواقع الكئيب للألم والمرض والفقر وقلة الحيلة أمام ما يفوق قدرة الإنسان على التصرف أو حتى الاحتمال. يحمل الفيلم تناقضًا رئيسيًا بين جماليات صورته النقية وما تعكسه من واقع متهالك ومهترئ يغلفه الألم ويكاد يكون مصنوعًا منه. عبر مشاهده يقدم الفيلم لوحات جمالية لواقع بشع ومنفر، واضعًا المشاهد أمام حيرة بين الإعجاب بالصورة والنفور فظاعة من الواقع المرير. يدور زمن أحداث الفيلم خلال 24 ساعة تبدأ من الصباح الباكر وحتي صباح اليوم التالي، يدور النصف الأول من أحداث الفيلم داخل شقة قديمة أثاثها متهالك وملابس ساكنيها رثة، وتغلب على الشقة، التي تسكنها أسرة مكونة من أب مريض وأم ممرضة وابنة عانس في منتصف الثلاثينيات، عتامة قاتمة فيما عدا بعض خيوط الشمس. لن يعني سرد أحداث الفيلم لمن لم يشاهد الفيلم الكثير، فالفيلم يعتمد في الأساس على الصورة ونبرات صوت الممثلين والتواءات الكلام، وفترات الصمت بين الجمل، إذ تمثل الجزء الأهم من الحوار بين الشخصيات والذي جاء في معظمه جملا مجزأة تفصل بينها فترات صمت طويلة نسبيًا فلا حاجة للعجلة، الكل في انتظار الموت. الحياة ثقيلة والزمن بطيء ولم يخالفهما زمن الفيلم فجاء مشابهًا لهما ثقيلاً ومشاهده طويلة، وضعت هالة لطفي المشاهدين خلال النصف الأول من الفيلم في الحالة النفسية المطلوبة من الاختناق والحزن والإحساس بالألم وطلب الخروج أيضًا. أوصلت المخرجة تلك الشحنة المفعمة بالألم عبر جماليات الصورة البارعة التي نقلت التفاصيل في دقتها، تفاصيل الملابس وألوانها، والنقوش على قماش الصالون القديم المتهالك، بيد أن ما تقدمه هالة لطفي ليس جماليات للقبح وإنما تكثيف للتفاصيل التي لا نراها عن بعد، فعبر الصورة النقية تظهرنا هالة لطفي على إحساس مغاير بالألم، الألم في نقائه وواقعيته. لم تشأ المخرجة أن تضع أي موسيقى في خلفية تلك الصورة النقية، فبرز شريط الصوت العبقري، الذي التقط كل الأصوات الواقعية في الشارع، ومنح المشاهد إحساسًا واقعيًا بالمنطقة العشوائية المحيطة بكل اصواتها. على سرير يرقد الأب مصابًا بجلطة دماغية أعجزته عن الحركة، وتعتني به الابنة التي انتهت حياتها وأصبحت تتمحور داخل الشقة المعتمة شبه مدفونة في جحيم يومي مستمر لا ينقطع، فحياة الابنة التي عليها العناية بأبيها طوال الليل وجزء من النهار حتي عودة الأم من دوام العمل بالمستشفى، تكاد تنعدم، فلا وجود لها إلا داخل تلك الدائرة التي لا تلوح في الأفق أي نهاية وشيكة لها. تسعى الابنة لتحسين شروط تلك الدائرة قليلاً بتوفير مرتبة طبية لأبيها لتقليل القرح لكن ما تملكه من مال لا يكفي، وكل تغيير تسعى إليه يحدث إلا داخل إطار كبير من السكون يغلف حياتها ويشلها. تبدو الأم (سلمى النجار) منهكة طوال الوقت ومستاءة وعصبية يخرج من جملها القصيرة إحساسًا مزدوجًا بالنقمة والرضا، وإحساسًا بالتكيف مع الحال الذي لا مفر منه في انتظار فرج الموت، ويغلف السكون والانفصال أطراف الفيلم جميعها، ففي مشاهد تقف فيها الكاميرا بين غرفتين، لتعرض صورة وكأنها مقسمة لجزئين نجد كل فرد في غرفة وقد ألهاه ما فيه، وتزيد عتامة الشقة من الإحساس بالبؤس والألم. بحلول منتصف الفيلم تبلغ شحنة الألم والضيق لدى المشاهدين ذروتها معززة بطول المشاهد لدرجة تلهف فيها جمهور العرض للخروج من غياهب الردهات المظلمة للشقة لنور الشارع، ويأتي خروج الابنة من المنزل بمثابة الانفراجة في الفيلم والتي تمنح المشاهد القدرة على إكمال الفيلم بعد أن أوصلته المخرجه هالة لطفي إلى الحالة المطلوبة بالضبط، لكن الخروج للنهار لم يحن بعد. تأتي الشحنة الشعورية الهائلة بالفيلم من دوافع شخصية لدى المخرجة وفريق العامل بكامله، فكل شخص وضع شيئًا منه داخل العمل كما تقول هالة لطفي. عايشت هالة لطفي نفس الحالة مع والدها المريض والذي عانى حالة مشابهة لمدة عامين وترافقت حولها حالة من اليأس الشديد، في حدود عام 2007 – 2008، وحاولت هالة لطفي أن يكون الفيلم في البداية وثائقيًا عن والدها لكن عجزها عن تصويره حال دون ذلك فتحول لفيلم روائي طويل. تقول هالة لطفي: "العمل لم يعد القصة الشخصية لي بعد أن شرعنا في تنفيذه، العمل هو قصة كل واحد ممن عمل في الفيلم فكل واحد منهم وضع شيئًا منه، من قلبه داخل العمل". أحمد لطفي، الصحفي الراحل بالأهرام إبدو والذي أدي دور الأب في أول وآخر دور له في السينما، وافق على تأدية الدور تكريمًا لذكرى والدته التي اعتني بها هو في آخر حياتها، وكذا مصممة الديكور شهيرة ناصف التي جلبت إكسسوارات تعود لجدها الذي كان يعاني نفس الحالة. يحمل فيلم هالة لطفي الكثير من الدلالات السياسية والاجتماعية لكنه يجبر المشاهد على تلقي حالة إنسانية خالصة من الألم، لم يعبر عنها بحوار غاضب أو حزين، لكن بالصورة والصمت، الذي عكس واقعًا مريرًا من الألم والفقر والمرض، يفتح أمام المشاهد لاحقًا الباب لفهم ما يقبع تحت تلك الصورة من دلالات ومعان، ولكنه أصر أن يعكس حالة إنسانية خالصة. يكسر الفيلم الأسطورة الشائعة التي تربط بين أفلام المهرجانات والنخبة، فالفيلم الذي يصنف كفيلم مهرجانات بامتياز، لقي إقبالاً كبيرًا من الجمهور الذي تفاعل معه بشكل فاق التوقعات، وتفاعلوا معه على اختلافهم، منهم من أخذ عظة أخلاقية، ومنهم من اكتشف أن هناك معدمين يعيشون في هذا المجتمع، ومنهم من اعتبر الفيلم غريبًا وتجربة جديدة مختلفة عن السائد. أنجزت هالة لطفي الفيلم في حوالي 25 يومًا صورت 12 يوما منها في 2010 و13 يومًا في عام 2011 بعد الثورة وبأقل التكاليف إذ قررت الاستغناء عن كل ما يثقل كاهلها من الكماليات والرفاهيات استعداداً لخوض المغامرة، فلم تستعن بماكيير أو بوفية وألقت بماكينات السينما الضخمة والعملاقة وراء ظهرها واستعانت بكاميرا خفيفة أنتجت واحدة من أجود الصور السينمائية بفضل مدير التصوير محمود لطفي الذي عمل في ظروف الإضاءة العادية والمتاحة. باختصار وكما تقول هالة لطفي فهي أرادت أن تحكي حدوتة بطريقة مختلفة لا تخضع للشروط التجارية، لا تخشى من المغامرة في حكيها فلا هي تستثمر ولا تغامر بأموال أحد، لكن ذلك لم يأت على حساب جودة المنتج النهائي.