منذ مهرجان «كان» 2012 وأنا أتابع فيلم المخرج النمساوي مايكل هنيكه «حب»، الذي حصد السعفة الذهبية في «كان».. وأحسن فيلم أجنبي في جولدن جلوب واقتنص خمس جوائز من الأكاديمية الفرنسية للسينما «سيزار»، (أفضل فيلم وأفضل سيناريو وأفضل تمثيل نسائي ورجالي، وكذلك أفضل إخراج) وأخيراً نال جائزة أحسن فيلم أجنبي في الأوسكار. إنه حقاً فيلم رائع هذا هو شعورك عندما تغمض عينيك بعد انتهائه محاولاً التمسك بهذا الغزو من المشاعر والأحاسيس التي تنتابك بعد انتهاء عرضه، في «حب» إننا أمام تجربة إنسانية يدفعنا إليها دفعاً المخرج لنعيش مع زوج عاشق وامرأة ترفض الضعف لكونه يعني لها النهاية، فهي تقوم بكل ما لديها من قوة قبل أن تفقد القدرة كاملة علي الحركة ومع زحف الشلل إلي جسدها تصبح أكثر ابتعاداً عن الآخرين، «مهزمة.. خائفة» شعوران هما الوصف الدقيق لحالتها الإنسانية.. من هنا تبدأ العلاقة الخاصة بين الزوجين ذات المفردات التي لايمكن تطبيقها علي حالة أخري، ومن هنا يكمن تفردها الإنساني، وهذا يفسر لك مشهد صفع الزوج لها عندما ترفض الطعام من يده, وإصراره علي أن يظل هو وزوجته فقط بالبيت رافضاً تدخل الابنة والخادمة.. وفي الفترة الفاصلة بين انهيار حالة الزوجة وبين مشهد النهاية ثمة أحاسيس متصلة بجماليات الصورة الممزوجة بالجمل الحوارية الشاعرية بتكثيف غاية في الشفافية والواقعية التي تصل إلي حد الإغراق في الحزن والشجن الإنساني النبيل، ناقلاً لك تلك النماذج البشرية التي تتحول بداخلك إلي شخوص من لحم ودم, وأحداث لها رائحة تشمها في أعماقك. المخرج «مايكل هنيكه» يرسم في هذا العمل صورة كل واحد فينا إذا نظر في المرآة بكل ما بنا من مشاعر متناقضة، وبشاعرية كاميرته اقترب من خارج وداخل الرجل وامرأته وربما كان من جماليات الفيلم تلك المشاهد كلوز أب لوجهيهما!.. وبينهما ضعف لعين وأحاسيس سنين بين رجل وزوجته معتمداً «هنيكه» علي أسلوب المعالجة الدرامية المعتمد علي الرصد لقصة حب تحتضر، مثل الأم، مع استخدامه لكادرات واسعة في بداية المشاهد مع لقطات استعراضية للمكان تشعرك بحركة الشخصيات في أوقات غيابها وكأنها ظلال متحركة وهو أسلوب يتفرد به هنكيه يعطيك به فرصة لخيالك لتري أبعاداً إنسانية بالفيلم خاصة بك، فهو من الأفلام التي لها خصوصيتها فلا تُشبه غيرها لتكون مميزة في حد ذاتها وتُختلّف فيما ورائها من لمسات إخراجية يعدّها الآخرون نهجاً ليسيروا عليه. إنه فيلم يحمل حقاً بصمة هانكيه الذي يدهشك دائما في أسلوب عرضه لقضاياه، كما فيلم في «عازفة البيانو» و«القارّة السابعة» و«ألعاب غريبة» و«زمن الذئب» عازفاً كالمعتاد علي التفاصيل مهما كانت مؤلمة وكأنه يضغط علي المشاهد ليتألم، مستعرضاً الحكاية التي يقولها الزوج قبل انتحار زوجته يتحدّث عن الاختيار الصعب وساعده في إظهار ذلك مدير التصوير «داريوش خونجي» بالإضاءة الخافتة والناعمة للبيت وهو أسلوب يعمق الأحاسيس الدائرة بين الزوجين، حتي الكابوس الذي انتاب الزوج بعدما تسرب إليه الشعور بالملل فكان مشهد امتداد يديه إلي الوسادة بكل هدوء خانقاً زوجته في فراشها بإحساس غاية في البرود يصطدم المشاهد بقوة, «آن» تلك الزوجة المسنّة التي تعيش مع زوجها المتقاعد (جان-لوي تريتنيان) في بيت أنيق وجميل ولديهما ابنة متزوّجة (إيزابيل أوبير) بين ليلة وضحاها تفقد الأم حركتها، وتجلس ساكنة في حالة غياب إرادي عن الواقع، وما هي إلا أيام قليلة حتي تُصاب بالشلل التام فتفقد القدرة علي الحركة، فينقل لنا المخرج تأثير ذلك المرض علي الزوج خصوصاً وقد أصبح أكثر رفضاً للحالة، بعض الواجبات لا تزال تستطيع القيام بها، لكن الزوج يقوم بالبعض الآخر، ثم تزداد واجباته مع تعرّضها لعارض آخر تفقد معه القدرة علي الحركة تماماً والنطق أيضاً مع مرور الوقت، خلال ذلك تزور ابنتهما المنزل في زيارت يسيطر عليه التوتر، لأن الأم لا تطيق زوج ابنتها الإنجليزي (وليام شيمل) ولا تريد لأحد أن يراها لاحول لها ولا قوة علي فراش المرض، من ناحيته يتعمد الزوج العناية بها بصبر وعلي أمل وتعاونه ممرضة أخري، لكن حين يستعين بممرضة جديدة يلاحظ أنها لا تقيم وزناً لحاجات زوجته فيطردها، هذا ما ينقل كل الرعاية إلي الزوج الذي يستمر محباً وبازلاً أقصي جهد. هناك مشاهد عديدة بالفيلم لها دلالات رمزية مهمة منها عندم تجيء حمامة في إحدي غرف المدخل المطلّة علي فناء البيت وتبدأ في تناول الطعام الذي وجدته عليه ويكتشف الزوج وجودها وهو يكتب فيتجه إليها ويخرجها من النافذة المفتوحة ثم يغلقها, وبعد عدة مشاهد، وقبل النهاية نري الحمامة ذاتها وقد عادت ولكن في هذه المرة تدخل إلي غرف الشقة الداخلية، تأكل ولا تخاف من محاولات الزوج المشغول أيضاً بالكتاب عن القبض عليها، ترقبه بينما يحمل غطاء يرميه عليها فتحاول الحمامة الهروب بعيداً، لكنها بعد أن ألفت المكان لا تفكر في الطيران، ولكن الزوج يقبض عليها وينتهي المشهد، بعد قليل ليعود من جديد يكتب لابنته، يخبرها بما حدث وإطلاقه سراح الحمامة، وكأنه بهذا المشهد ينبئك عن معني التحرر الذي يحلم به وكأنه قارب نجاة. في النهاية يفاجئك المخرج أن (الزوجة والزوج) يتهيئان للخروج من البيت. فينسي الزوج معطفه فتذكره، الزوجة لكي يرتديه، في هذا المشهد قد تجد نفسك تصرخ داخلياً لأن البطلة لا تزال حيّة وواقفة علي قدميها لتعيدنا ربما إلي مشهدهما بعد الأول في الفيلم (يحضران حفلة موسيقية)، وبهذا يقدم لنا المخرج نهاية أخري للفيلم عكس ما كان متوقعاً لأن المشهد الأول به كان اقتحام البوليس للشقة فيكتشف جسد (إيمانويل ريفا)، ميتة ثم يبدأ في السرد بأسلوب الفلاش باك.