مع كل يوم يمر يتضح أكثر وأكثر الدور الاستفزازى الذى يلعبه الغرب بصفة عامة والولاياتالمتحدة بصفة خاصة فى أحداث أوكرانيا التى لا تعدو كونها انقلابًا على الرئيس الشرعى المنتخب واستيلاء على السلطة بقوة السلاح من قبل ميليشيات يمينية متطرفة مدعومة من أمريكا والغرب، وهو ما جعل الكثير من قادة دول الاتحاد السوفيتى السابق ينظرون بقلق إلى ما حدث فى ساحة ( ميدان) الأوكرانية ويتخوفون من الوسطاء الغربيين واحتمال أن يواجهوا نفس المصير. وإذا مانظرنا إلى ما حدث فى العقدين الآخيرين، فسوف نجد الكثير من الأمثلة التى تقوم فيها واشنطن وحلفاؤها بفعل أى شىء وكل شىء لتثبيت دعائم حكم أنظمة منصاعة وطيعة وخلع زعماء غير مرغوب فيهم داخل نطاق المصلحة.. رأينا ذلك فى يوغوسلافيا التى تعرضت لقصف مدمر من طائرات الناتو وتم خلع سلوبودان ميلوسوفتيش عام 1992. وبعد أربع سنوات قامت كل من واشنطن ولندن تحت حجج واهية (البحث عن أسلحة الدمار الشامل) بشن حرب على العراق انتهت باحتلال البلد العربى وإعدام صدام حسين، الذى كان ذات يوم صديقًا لواشنطن وساعدته وأمدته بالسلاح فى حربه ضد إيران فى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات.. لكن سرعان ما أصبح الرئيس العراقى هو العدو اللدود بمجرد أن أظهر بعض العناد وعدم الطاعة فى بعض النقاط. ونفس المصير لاقاه الزعيم الليبى معمر القذافى، ففى فبراير 2011 بدأ النزاع المسلح بين القوات الحكومية الليبية والجماعات المعارضة. وفى أواخر فبراير واستنادًا إلى معلومات غير موثقة بقيام الطائرات الليبية بقصف وقمع المحتجين السلميين، تبنى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارًا بفرض عقوبات على الحكومة الليبية. وبموجب قرار آخر تم اتخاذه فى مارس تم فرض منطقة حظر طيران فى السماء الليبية. لكن دول الناتو بدأت فى قصف القوات والمعسكرات الحكومية وانتهت الحرب رسميًا بمقتل القذافى فى أكتوبر 2011. وفى مصر وعلى امتداد ثلاثة عقود ظل البيت الأبيض يحابى الرئيس الأسبق حسنى مبارك لكن عندما رفض الانصياع لهم فى بعض الأمور، أبدوا غضبهم وقالوا إن عليه أن يرحل (الآن)! لا يوجد أصدقاء للأمريكان ولكن توجد مصالح مؤقتة. ولأجل هذه المصالح يمكن للأمريكان أن يتخذوا أصدقاء حتى من بين الإرهابيين الصريحين مثل أسامة بن لادن أو طالبان مع تقديم كل أنواع المساعدة لهم طالما أنهم يدافعون عن مصالحهم فى أفغانستان. لكن عندما تضاربت المصالح تمت تصفية بن لادن ومازال القتال دائرًا ضد «الأصدقاء» من طالبان ولا تزال الولاياتالمتحدة تحصد ما زرعته سياستها. ونأتى لما يحدث الآن فى أوكرانيا لنجد أن التاريخ يعيد نفسه فقد خان الغرب بكل سهولة الرئيس الأوكرانى الشرعى فيكتور يانوكوفيتش وأخذ جانب المتمردين النازيين. خان الغرب الرئيس الأوكرانى المنتخب عندما ضمنت كل من فرنسا وألمانيا وبولندا الاتفاق الموقع بين يانوكوفيتش والمعارضة لتسوية الأزمة السياسية فى أوكرانيا، ثم فجأة نسيت هذه الدول ما ضمنته وأغمضت عينيها عن الأعمال الوحشية التى ارتكبتها ميليشيات إفروميدان فى كييف. ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتى السابق والولاياتالمتحدة لا تكل ولا تمل فى محاولاتها لفرض سيطرتها على دول الاتحاد السوفيتى سابقًا، وذلك عن طريق إقامة أنظمة حكم تطابق احتياجاتها ويمكن أن نرى معظم هذه النشاطات فى القوفاز، غير أن الاستجابة لم تأت إلا من جورجيا فقط بفضل شيفرنادزه وساكاشفيلى على وجه الخصوص، على أمل أن تصبح جزءا من الاتحاد الأوروبى وعضوًا فى الناتو. وقد يبدو فى الظاهر أن الغرب يدعم الرئيس الأذربيجانى، إلهام علييف. لكن مؤخرًا تبدل هذا التوجه تمامًا بعدما سئم علييف من إلحاح الغرب ولم يرغب فى تدمير علاقته مع روسيا واضعًا فى حساباته، على ما يبدو، وصية آبائه وأجداده وسنوات دراسته فى موسكو. وسرعان ما ظهرت عناوين صحفية تقول (الغرب لم يعد فى حاجة إلى علييف بعد الآن) و(الولاياتالمتحدة تغضب من علييف). ووصل الأمر ذورته عندما اضطر الرئيس الأذربيجانى إلى إبلاغ كاترين آشتون، الممثل الأعلى للشئون الخارجية والأمن بالاتحاد الأوربى، أثناء زيارتها لبلاده بالبقاء بعيدًا عن الشئون الداخلية لأذربيجان. نفس الشىء حدث مع الرئيس الأرمينى سيرجى سارجسيان الذى اتجه بسياسته ناحية روسيا تحقيقًا لمصالح بلاده والأكثر من ذلك أنه وحكومته مصرون على أن يصبحوا جزءًا من الاتحاد الجمركى. وسرعان ما وجهت إليه انتقادات كثيرة فى الغرب ووصل الأمر إلى التهديد بفرض عقوبات. وفى شهر يناير الماضى ورد اسم سارجسيان فى صحيفة أنجيليس ويكلى فى أمر يتعلق ب(تهريب المخدرات وتزييف المجوهرات) و(المشاركة فى مؤامرات دولية)، الأمر الذى دعا المتحدث باسم المجلس التشريعى الأرمينى إدوارد شارمازا نوف إلى وصف ذلك بأنه محض هراء ولا يستدعى التعليق عليه لكن المهم أن الهجوم على سارجسيان قد بدأ ومن المتوقع أن يتواصل. فى نفس الوقت لم تستطع الولاياتالمتحدة تحقيق أى نجاح فى جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق الواقعة فى وسط آسيا وذلك رغم جهودها لبسط نفوذها على تلك الدول. والأكثر من ذلك أنه خلال المنتدى الاقتصادى الدولى الذى انعقد فى الآستانة مؤخرًا اقترح الرئيس الكازاخستانى، نور سلطان نزار باييف، على المجتمع الدولى التخلى عن الدولار كعملة احتياط دولية، وأن تكون هناك عملة غير وطنية لتحل محله. ووفقًا لنزار باييف فإن ماتقوم به أمريكا من إصدار للعملة الدولية هو عمل غير ديمقراطى يمد واشنطن بميزات غير تنافسية وسرعان ما أثار خطاب نزار باييف الذى أطلق عليه (الهجوم على الدولار) جام غضب واشنطن وهو ما يعنى أن هناك محاولات سوف تجرى قريبًَا لإزاحته. والمعروف أن واشنطن عند الضرورة قد تلجأ إلى وسائل أكثر حدة وصرامة وربما إجرامية أيضًا فقد أصبح واضحًا الآن أن المخابرات الأمريكية قامت بثلاث محاولات لاغتيال رئيس روسيا البيضاء، أليكسندر لوكاشينكو حاولوا قتله بالسم وحاولوا تفجير موكبه فى مينسك عام 2008 ولحسن الحظ كتبت له النجاة، لكن لا أحد يعرف ما سوف تقوم به المخابرات الأمريكية بذراعها الطولى فى قادم الأيام وعلى الرئيس لوكاشينكو وباقى قادة جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق أن يحذروا. فأحداث أوكرانيا ومصير فيكتور يانوكوفيتش ماهى إلا درس آخر للجميع.