«تداعيات الأحداث السياسية فى خلال ما يقرب من ثلاث سنوات أدت إلى تراجع ملحوظ فى الأداء وعدم القدرة على تحقيق أفضل استدامة للطاقات الكامنة فى الاقتصاد» .. هذا ما توصل إليه «تقرير الأداء الاقتصادى والمالى خلال النصف الأول من العام المالي 2013/ 2014، الصادر مؤخرا عن وزارة المالية. كشف التقرير، الذى يرصد بالأرقام، أداء الاقتصاد خلال الفترة يوليو - ديسمبر 2013، أنه على الرغم من الأداء المتواضع للاقتصاد، خلال السنوات الثلاث الماضية، فإن النظرة المستقبلية تشير إلى وجود إمكانيات كبيرة للتقدم خلال السنوات القادمة، وذلك نتيجة لتوافر ثلاثة عوامل رئيسية يدعم كل منها الآخر، وهى استكمال خريطة الطريق السياسية، والتزام الحكومة بوضع الاقتصاد فى المسار السليم، والاهتمام الكبير فى المنطقة بنجاح مصر وإستقرار الاقتصاد. وهناك بالفعل، وفقا للمالية، مؤشرات إيجابية للتقدم على هذه المحاور الثلاثة، حيث تم الانتهاء من الاستفتاء على الدستور الجديد بأغلبية كبيرة، وأن الحكومة تقوم باتخاذ الإصلاحات المطلوبة لضمان التقدم خلال السنوات القادمة. وأن دول الخليج قد ثبت جليا مساندتها السياسية والمالية لمصر. وأشار التقرير، الذى يعد بمثابة كشف حساب لحكومة د. الببلاوى، إلى أنه من المتوقع أن يؤدى الإنفاق على الحزم التنشيطية فى الاقتصاد إلى الإسراع بمعدلات النمو الاقتصادى لحوالى 3.5% خلال العام المالى الجارى، ومن المقدر أن تنمو الاستثمارات والاستهلاك العام بمعدلات نمو حقيقية تبلغ 41.3% و 9.8% على التوالى. وأن يرتفع معدل نمو الناتج المحلى الحقيقى إلى ما يزيد على 4%، وبحيث ترتفع تدريجيا، ليفوق معدلات النمو الكامنة فى الاقتصاد على المدى المتوسط. وفى غياب سياسات تنشيط الاقتصاد، وتحقيق الاستقرار السياسى، فإن الاقتصاد المصرى كان سيستمر فى تحقيق معدلات نمو متواضعة. وتذهب تقديرات وزارة المالية لمعدلات نمو الاقتصاد إلى أن الاقتصاد سيحقق فى العام المالى نحو 3.5% على أن تعاود معدلات النمو الارتفاع، لتصل إلى 4.1% خلال العام المالى 2014/ 2015، لتصل إلى نحو 6% فى 2016/ 2017، وذلك باتباع المسار الإصلاحى المحفز للنمو الاقتصاد، وأن نسبة الدين الحكومى سينخفض من 93.8% هذا العام إلى نحو 74.2% فى العام 2017/ 2018. تحديات حقيقية ووفقا لتقرير المالية، شهد الاقتصاد منذ بداية العام 2011 تحديات حقيقية وصلت إلى ذروتها فى يونيو 2013، وأن صلابة أركان الاقتصاد الرئيسية، لم تمنع الآثار السلبية لتداعيات الأحداث السياسية خلال فترة ما بعد 25 يناير 2011، التى ترتب عليها تراجع ملحوظ فى الأداء وعدم القدرة على تحقيق أفضل إستدامة للطاقات الكامنة فى الاقتصاد. وبالفعل، قامت حكومة الببلاوى –الانتقالية - منذ تعيينها فى 16 يوليو 2013، بتحديد أهم التحديات، التى تواجه الاقتصاد المصرى، التى تمثلت فى ثلاث مشكلات رئيسية، أولها، تراجع معدلات النمو وارتفاع معدلات البطالة؛ وثانيها، وجود اختلالات على مستوى الاقتصاد الكلى، ومن أهمها ارتفاع عجز الموازنة العامة، وتراجع الاحتياطى من النقد الأجنبى، وارتفاع مستوى الدين العام؛ وثالثها، ارتفاع معدلات الفقر وعدم العدالة الاجتماعية، والأزمة تكمن فى أن هذه التحديات تغذى بعضها البعض، مما يتطلب لمواجهتها التصدى لها بشكل يختلف عن السياسات المتبعة من قبل. وتظهر مؤشرات الأداء الاقتصادى صعوبة التحديات، وبحسب تقرير المالية، بلغ متوسط النمو الاقتصادى فى سنوات ما بعد ثورة يناير نحو 2% (أقل بنحو 0.5% عن معدل الزيادة السكانية)، مما ساهم فى تفاقم معدلات البطالة، لترتفع من نحو 9% فى 2009/ 2010 إلى نحو 13.3% نهاية يونيو 2013. ثم تراجع معدلات الإدخار والاستثمار كنسبة من الناتج المحلى إلى 7.2% و14% يونيو 2013. وترك هذا الانخفاض الحاد فى معدلات النشاط الاقتصادى تأثيرا ملحوظا على أداء الموازنة العامة، خاصة مع زيادة المطالب الاجتماعية والفئوية، حيث ارتفع العجز فى الموازنة العامة إلى مستويات قياسية سجلت نحو 13.7% من الناتج المحلى الإجمالى (مقاونة بعجز بنحو 7.5% خلال 2010/2011)، ومع ارتفاع الدين العام إلى ما يقرب من 94% مقابل 79% من الناتج المحلى الاجمالى فى يونيو 2013. الجانب الاجتماعى وعلى الجانب الاجتماعى، شهدت الفترة إستمرار معاناة الأفراد خاصة من الفقراء ومحدودى الدخل، حيث ارتفعت معدلات الفقر إلى نحو 26.3% فى عام 2012 مقابل 25.2% فى 2010، كما استمر تراجع متوسط دخل الفرد، وذلك منذ يناير 2011، ومن ناحية أخرى ظلت الحاجة ملحة لإصلاح خدمات التعليم والصحة، بينما لم تكن شبكة الحماية الاجتماعية من الكفاءة أو القدرة على تقديم الحماية اللازمة لحماية محدودى الدخل والفقراء، أو بما يمكن من مواجهة الأمراض أو البطالة أو الشيخوخة. وضعت الحكومة الانتقالية، كما ذكر التقرير، مواجهة التحديات السابقة على رأس أولوياتها، وكان من الواضح أن السياسات التقشفية لم تكن هى السياسة الاقتصادية المناسبة، لأنها كانت ستتسبب فى زيادة تباطؤ النشاط الاقتصادى، وبالتالى زيادة الخلل بالتوازنات الاقتصادية، وبالتالى حدوث مزيد من التدهور فى الأوضاع الاجتماعية، ولذلك قررت الحكومة اتباع سياسات توسعية لتنشيط حركة السوق، وتوفير فرص عمل والاستجابة للمطالب الاجتماعية الأكثر إلحاحا. فى سبيل دفع حركة النشاط الاقتصادى، فقد قامت الحكومة بإصدار حزمة تحفيزية فى أكتوبر 2013 بقيمة 29.7 مليار جنيه، وتم توجيه ثلثى الإنفاق لزيادة الاستثمارات الحكومية فى البنية الأساسية، علاوة على تخصيص 4.8 مليار جنيه لخدمات الصحة، و1.2 مليار جنيه لسداد المتأخرات لشركات المقاولات، وقد أتاحت وزارة المالية حتى نهاية فبراير 2014 نحو 20.1 مليار جنيه للوزارات والجهات المنفذة لهذه الحزمة. وأطلقت وزارة المالية، وفقا للتقرير، حزمة تحفيزية ثانية فى يناير 2014 بمبلغ 33.9 مليار جنيه، وتم توجيه 20 مليار جنيه منها لاستثمارات البنية الأساسية، بينما تم توجيه المبالغ الأخرى للإنفاق على الحد الأدنى لأجور العاملين بالحكومة وزيادة دخول المعلمين والمهن الطبية، ليصل حجم الحزم التحفيزية إلى ما يعادل 3% من الناتج المحلى. هذا وقد تم تمويل الحزمة التنشيطية الأولى من خلال استخدام نصف مبلغ وديعة وزارة المالية فى البنك المركزى القائمة منذ عام 1991 (والتى تبلغ إجماليها نحو 60 مليار جنيه)، بينما تم استخدام النصف الثانى من الوديعة لخفض الاحتياجات التمويلية لخزانة العامة، أما الحزمة الثانية فقد تم تمويلها من خلال منحة مقدمة من دولة الإمارات العربية المتحدة، والتى تأتى ضمن حزمة أكبر من مساعدات دول الخليج العربى. وكشفت وزارة المالية فى تقريرها أن إجمالى مساعدات دول الخليج لمصر خلال الفترة يوليو – ديسمبر 2013 بلغت 10.7 مليار دولار عبارة عن 3.6 مليار من المملكة العربية السعودية موزعة إلى 2 مليار دولار ودائع لدى البنك المركزى و1.6 مليار منح عينية، و4.2 مليار دولار من الإمارات العربية المتحدة موزعة إلى 2 مليار دولار ودائع لدى البنك المركزى ومليار منح نقدية و1.2 مليار أخرى منح عينية، و2.7 مليار دولار من الكويت عبارة عن 2 مليار ودائع لدى البنك المركزى و700 مليون دولار منح عينية، وأخيرا، 200 مليون دولار منح عينية. وعلى جانب المالية العامة للدولة، قامت الحكومة على تنفيذ قائمة من الإصلاحات المالية، التى تستهدف زيادة موارد الدولة وترشيد الإنفاق، وتمثلت الإصلاحات على جانب المصروفات، فى إجراءات ترشيد دعم الطاقة، بالبدء فى تطبيق نظام الكروت الذكية لتوزيع السولار والبنزين والمازوت، وتحريك أسعار المواد البترولية بشكل تدريجى، وتطوير نظم إدارة الدين الحكومى، والاستثمارات الحكومية، وتطبيق نظام لإدارة التدفقات النقدية بالخزانة العامة، الانتهاء من تطوير نظم الميكنة فى الدفع والتحصيل، وتطوير نظم المراجعة المحاسبية الداخلية للحكومة، مراجعة شاملة لقانون المشتريات الحكومية. وعلى جانب الإيرادات، قامت الحكومة بالسعى قدما للتحول من ضريبة المبيعات إلى ضريبة القيمة المضافة، وتطبيق قانون الضريبة العقارية، وإصدار قانون جديد للثروة المعدنية وتسوية المتأخرات الضريبية وتوسيع القاعدة الضريبية من خلال تشجيع الاقتصاد الموازى للانضمام إلى القطاع الرسمى، وفض التشابكات المالية بين الجهات الحكومية ودراسة ومراجعة قانون الضريبة على الدخل. ومن المتوقع أن تؤثر هذه الاصلاحات بشكل محدود على الأداء المالى خلال العام الجاري، إلا أن الأثر الكلى سوف يتحقق خلال العام المالى القادم، وبما يحقق وفرا فى الموازنة العامة بنحو 103 مليار جنيه (4.3% من الناتج المحلى)، وبحيث يزداد فى السنوات التالية. وذكر التقرير أنه على الرغم من أن النمو الاقتصادى يعتبر شرطًا أساسيًا لتوسيع عادل لها على مستوى المجتمع. وقد أوضحت تجربة الاقتصاد قبل ثورة 25 يناير فشل سياسات تساقط ثمار النمو الاقتصادى، وبالتالى، فإن الحاجة ماسة للمضى قدما فى تنفيذ الاستراتيجية الشاملة لتحقيق العدالة الاجتماعية، التى تتكون من ثلاثة محاور أساسية، أولها، التأكد من أن زيادة معدلات النمو تصاحبها زيادة فى معدلات التشغيل، وأن يتم التوزيع بشكل عادل، وثانيها، تحسين الخدمات الاجتماعية خاصة التعليم والصحة، ثالثها، التحول من الدعم السلعى إلى دعم الأسرة الفقيرة. ووفقا لتقرير وزارة المالية فإن معدل النمو الاقتصادى، خلال الربع الأول من العام المالى الجارى، تأثر بالتطورات السياسية منذ يونيو الماضى، وما تبعها من فرض لحالة الطوارئ وحظر التجوال، ولكته ظل إيجابيا عند معدل 1%، وذلك مقارنة بمعدل نمو قدره 2.6% خلال نفس الفترة من العام المالى السابق، وكذلك لا يزال معدل البطالة مرتفعا، حيث بلغ 13.4% فى الربع الأول من العام المالى 2014 مقارنة بنحو 12.5% فى الربع الأول من العام المالى 2013. ووفقا للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، تشهد معدلات البطالة زيادة مطردة منذ العام المالى 2009/ 2010، الذى بلغ فيه معدل البطالة 9%، واستمر فى التزايد خلال العام التالى ليصل إلى 11.8%، وفى العام المالى 2011/ 2012 بلغ معدل البطالة 12.6%، فيما بلغ معدل البطالة فى 2012/ 2013 نحو 13.3%، أما الربع الأول من العام المالى الحالى فبلغت معدلات البطالة فيه 13.4%. وأشارت وزارة المالية فى تقريرها، إلى أن هناك بعض المؤشرات الأولية التى تشير إلى بدء تعافى الاقتصاد ونهاية حالة التباطؤ الاقتصادى، التى منها ارتفاع مؤشر الإنتاج الصناعى للمرة الأولى منذ بداية العام المالى، ليسجل زيادة شهرية بنحو 14% فى نوفمبر 2013، وهو يعد أكبر زيادة شهرية منذ يناير 2013، كما استمر المؤشر فى الارتفاع فى خلال ديسمبر، ليسجل معدل نمو شهرى 4.6%. وكذا عودة الاستثمارات الأجنبية فى قطاع البترول بعد الاتفاق على سداد مديونية الشركاء الأجانب، خاصة أن تراجع الاستثمارات كان أحد الأسباب الرئيسية، لتراجع معدلات النمو فى الناتج المحلى خلال العامين الماضيين، فضلا عن أن قطاع السياحة شهد تحسنا طفيفا، حيث بلغ اجمالى عدد السياح الوافدين 678 سائحًا خلال ديسمبر 2013، مقابل 673 سائح خلال نوفمبر 2013. وكذلك من مؤشرات التحسن التى أوردها التقرير، ارتفاع مؤشر EGX 30 لأداء البورصة المصرية إلى مستويات قياسية، وتحقيقه لنسب أرباح تبلغ 42.7% خلال الفترة يوليو - ديسمبر، وهى الأعلى منذ ثورة يناير 2011، وأخيرا، رفع درجات التصنيف الائتمانى لمصر من مؤسسة «ستاندرد أند بورز» فى نوفمبر 2013، كذا قيام مؤسسة «فيتش» بتعديل النظرة المستقبلية لمصر من سالب إلى مستقر. وتشير البيانات المبدئية لأداء الموازنة العامة، خلال النصف الأول من العام المالى الجارى، إلى أن العجز الكلى للموازنة العامة بلغ 89.4 مليار جنيه أو ما يعادل نحو 4.4% من الناتج المحلى جمالى وبمعدل انخفاض نحو 2.2% مقارنة بالعام السابق، حيث ارتفعت جملة الإيرادات بنحو 14.7% لتبلغ 175.4 مليار جنيه، كما ارتفعت حجم المصروفات بنحو 7.6% إلى 262.1 مليار جنيه. وفى رأى د. أحمد جلال، وزير المالية السابق، كان الاقتصاد يواجه العديد من التحديات الصعبة نهاية يونيو 2013، ويأتى على رأس هذه التحديات تباطؤ فى معدلات النمو، وارتفاع معدلات البطالة، وارتفاع كبير وغير مستدام فى العجز الكلى للموازنة العامة، وزيادة معدلات الدين العام، وزيادة الضغوط على ميزان المدفوعات، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الفقر والشعور بعدم العدالة الاجتماعية. وكان أمام الحكومة الانتقالية، فى مواجهة تلك التحديات، الاختيار بين أحد المسارين، إما إتباع سياسات انكماشية لتحقيق الاستقرار الكلى فى الاقتصاد، وعلى أمل أن تؤدى هذه السياسة إلى تحقيق معدلات أكبر من النمو الاقتصادى فيما بعد، أو اتباع سياسات توسعية فى معدلات النمو الاقتصادى، والاستجابة للمطالب الاجتماعية، والعمل فى ذات الوقت على تحقيق الانضباط المالى للسيطرة على عجز الموازنة. واختارت الحكومة، وفقا ل «د. جلال»، انتهاج المسار الثانى بشكل حاسم مستفيدة فى ذلك من وديعة وزارة المالية فى البنك المركزى منذ 1991، ثم بعد ذلك من المساعدات من دول الخليج الشقيقة، كما تبنت الحكومة عددا من الإصلاحات المالية لإيجاد اتزان مالى يسمح بتحقيق الاستدامة على المدى المتوسط. وقد بدأت الحكومة، بالفعل، فى تنفيذ الاستراتيجية الجديدة منذ أغسطس الماضى من خلال طرح حزمة تنشيطية فى الاقتصاد بما يعادل 1.5 % من الناتج المحلى، تبعتها حزمة تحفيزية مماثلة تم إقرارها فى فبراير 2014 ليصبح إجمالى قيمة الحزم المالية ما يمثل نحو 3% من الناتج، وقد تم توجيه ثلثى هذه المبالغ لزيادة الاستثمارات العامة فى البنية الأساسية، بينما تم توجيه الباقى لتمويل مبادرات وبرامج ساهمت فى تحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية. وقد صاحب هذا بالتوازى، كما ذكر وزير المالية السابق، قيام البنك المركزى بخفض معدلات الفائدة ثلاث مرات متتالية، بمعدل نصف نقطة مئوية فى كل مرة، ومن المتوقع أن تؤدى السياسات المالية والنقدية التوسعية إلى زيادة معدل النمو الاقتصادى خلال العام الجارى نحو 3 - 3.5% ارتفاعا، من نحو 2.1% فى العام السابق، وإلى جانب استكمال تنفيذ خارطة الطريق السياسية، والتى ستؤدى حتما إلى مزيد من الثقة فى الاقتصاد، وبالتالى زيادة معدلات الاستثمار الأجنبى المباشر، ونمو السياحة.