كلنا نعلم أن العلاقات بين الدول لا تحركها العواطف وما يتبعها من أحضان وقبلات، وإنما تحكمها المصالح وتبادل المزايا والمنافع، كما أن كل دولة تحرص على استقلال قرارها السياسى، ومرونة تحركاتها الخارجية وبما يخدم أمنها القومى ويلبى الاحتياجات الداخلية لشعبها، وهذا بالضبط ما تحاول مصر القيام به حاليا، خاصة بعد أن قام الشعب المصرى بثورتين متتاليتين أسقط فيهما رئيسين فى أقل من ثلاث سنوات. ومن ثم يجب النظر لزيارة المشير والوزير إلى روسيا فى هذا الإطار، بمعنى أن مصر ليست أسيرة لعلاقات ثنائية معينة، وخاصة عندما يتمنع الصديق ويتلكأ فى تلبية احتياجاتها الضرورية، أو يقرأ الواقع على الأرض بشكل خاطئ، فضلا عن استخدامه لأوراق «ضغط» انتهت صلاحياتها.. وطوى الزمن صفحاتها! ومرة أخرى أقول إن زيارة المشير عبدالفتاح السيسى والوزير نبيل فهمى إلى روسيا «رسالة» للجميع أن مصر تحاول استعادة دورها المفقود، باعتبارها دولة محورية، ولاعبا أساسيا فى منطقة الشرق الأوسط.. وهو وصف أطلقه الإخوة الأمريكان على مصر ورددوه كثيرا على مسامعنا فى زياراتنا المتكررة لأمريكا. وهناك فرق شاسع فى مجال تقييم العلاقات بين الدول وبين المحترفين والهواة، فقد أعجبنى قول السياسى المخضرم نبيل فهمى وزير الخارجية فى مؤتمره الصحفى بروسيا، إن مصر لا تستبدل صديقا بصديق، ونحن نحترم روسيا ونرغب فى التعامل معها، مضيفا ومؤكدا أن مصر ستواصل علاقتها مع الولاياتالمتحدة.. بل ستعمل على تنميتها، وأن ذلك لا يتعارض مع تطور العلاقات مع روسيا وتنميتها، فى إطار السياسة الخارجية المصرية التى تعمل على تنويع الخيارات المصرية المتاحة للحصول على أفضل الخيارات فى أفضل الظروف. نعم.. إذا كان الصديق أغلق بابه فى وجهنا «مؤقتا» فلماذا لا نطرق باب صديق آخر ولسنا فى خصومة مع أحد، وإنما نبحث عن مصالحنا كما يفعل غيرنا. فروسيا صديق قديم.. ساعدنا من قبل فى بناء سدنا العالى وأمدنا بصفقات أسلحة متعددة.. وساعدنا بخبرائه فى مجالات مختلفة، وتبنى وجهة نظرنا فى قضايانا الإقليمية فلماذا لا نستعيد علاقتنا الوثيقة معه؟ خاصة أن روسيا مازالت قوة كبرى ولديها الكثير مما يمكنها تقديمه لأصدقائها، ومنها مثلا واردات القمح، وقطع غيار الصناعات الثقيلة فى الألومنيوم والحديد والصلب وغيرها، فضلا عن المعدات الحربية التى مازالت تمثل 40% من تسليح قواتنا المسلحة، بخلاف مساندتها للقضايا العربية فى مجلس الأمن والمؤسسات الدولية الأخرى. وهل يُعقل أن يكون نصيب مصر من الاستثمارات الروسية حوالى 70 مليون دولار فقط، فى حين تبلغ استثماراتها الخارجية أكثر من 360 مليار دولارا، كذلك بعد أن كنا نتعامل بنظام «الصفقات المتكافئة» أى نصدّر لهم فواكه وحاصلات زراعية بنفس القيمة التى نستورد منهم قمحا وأخشابا ومعدات ثقيلة، هل يعقل أن تكون صادراتنا لروسيا حاليا لا تتجاوز فى العام الماضى حوالى 400 مليون دولار فقط، بينما استوردنا منها- فى نفس الفترة- بحوالى 2 مليار و400 مليون دولار؟! والمعنى أن هناك مصالح متبادلة ومنافع مشتركة، فلماذا نهملها أو نحرم أنفسنا منها، خاصة أننا نحن الذين «تبطرنا» على السوفيت وطردناهم من بلادنا قبل حرب 1973؟! ثم ألم نذهب من قبل إلى الصين ودول شرق آسيا؟ وألم نذهب من قبل إلى الأرجنتين فى أمريكا اللاتينية؟.. أى أننا إذا كنا تحركنا غربا طوال السنوات الماضية نحو أمريكا ودول الاتحاد الأوروبى، وكذلك شرقا نحو الصين وبعض دول شرق آسيا، فلماذا لا نستعيد الحركة نحو الشمال (روسيا) ويتبعها حركة مماثلة نحو الجنوب مع دول حوض النيل؟! ولكن ليس معنى ما تقدم أن نُدير ظهرنا لأصدقائنا القدامى أو الحاليين، فمازالت أوروبا وأمريكا الشريك الأكبر تجاريا، والأكثر استثمارا فى مصر، وأيضا مازالت أمريكا السوق الأوسع للصادرات المصرية والأعلى فى القدرة الشرائية، ويكفى الإشارة إلى أننا صدرنا إلى السوق الأمريكى العام الماضى ما قيمته مليار دولار من الملابس وحدها، بخلاف الأسمدة والسجاد بقيمة مشتركة حوالى 500 مليون دولار، ومازلنا نستورد منها القمح وبعض المنتجات البترولية وقطع غيار الطائرات وفول الصويا بحوالى 2 مليار دولار. ومازالت أمريكا- وهو الأهم- القوى الكبرى فى العالم، واللاعب الأساسى فى المنظمات الدولية وعلى رأسها الأممالمتحدة وصندوق النقد والبنك الدولى. نعم هناك سوء تفاهم.. وعلاقات متوترة، ولكن مازالت قنوات الاتصال مفتوحة وزيارات المسئولين متبادلة مع ملاحظة أن القرار الأمريكى يصنعه ثلاث جهات مختلفة وهى الكونجرس، والبيت الأبيض، ثم مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، أى لا يصنعه البيت الأبيض (الإدارة الأمريكية) وحده والذى يأخذ موقفا مخالفا لكل من وزارة الدفاع والكونجرس! ??? مرة أخرى.. وكما عبر عن ذلك وزير خارجيتنا «نحن لا نستبدل صديقا بصديق».. بل نبحث عن علاقات متوازنة مع الجميع وبما يحقق مصالحنا ويحافظ على أمننا القومى ويساندنا فى ذلك أشقاؤنا من دول الخليج الذين مدوا يد العون بمساعدات اقتصادية سريعة، وأعلنوا استعدادهم لتمويل ما نحتاجه بشكل عاجل من أسلحة جديدة وحديثة وقطع غيار لأسلحة قديمة مازالت فى الخدمة. ومن هنا.. لا أعتقد أن «مصر الجديدة» التى تبحث وتحاول استعادة دورها- كدولة محورية ولاعب أساسى فى المنطقة- سوف تقتصر تحركاتها الخارجية على الشرق والشمال (نحو الصينوروسيا) فقط، وإنما سوف تمتد وبقوة نحو الجنوب.. وخاصة دول حوض النيل.. منبع النهر حامل مصدر الحياة على أرض مصر، فالأمر جد خطير.. ولا يجب ألا نستمر فى مشهد «الحسرة والعجب» من الموقف الإثيوبى وتعنته فى المفاوضات الجارية حول السد الذى تبنيه والذى يهدد بانخفاض حصتنا التاريخية من مياه النيل العظيم.