يقدم عمرو سلامة مؤلفا ومخرجا قضية خطيرة فى فيلمه «لامؤاخذة»، وهى مشكلة التمييز عموما ضد الآخر، وبشكل خاص التمييز الدينى، ولكن الفيلم، وهو العمل الثالث له تأليفا وإخراجا بعد «زى النهاردة» و «أسماء»، لم ينجح فى تقديم دراما متماسكة تحمل فكرته، فانفرط العقد فى النصف الثانى من الفيلم، وغابت الدوافع والتفسيرات، واختلطت فكرة انهيار التعليم بفكرة التمييز الدينى ، ثم دانت الغلبة لقضية فوضى التعليم، التى رأينا نماذج كوميدية كثيرة سابقة لها مثل فيلم «الناظر» للراحل علاء ولى الدين ومن إخراج شريف عرفة، تحتاج الأفكار الكبيرة إلى دراما قوية، وإلا وقعت فى التشويش والفوضى، وهذا ما حدث فعلا، رغم اجتهاد عمرو الواضح، ورغم طموحه الذى لا يمكن إنكاره. يرسم الفيلم فى بدايته ملامح حياة نموذجية، يعيشها الطفل المسيحى هانى عبد الله بيتر «يلعب دوره الطفل الموهوب أحمد داش» فى مدرسته الخاصة، ووسط أب يعمل مديرا فى أحد البنوك «هانى عادل»، وأم تعمل عازفة لآلة التشيللو فى دار الأوبرا اسمها كريستين (الممثلة السورية كندة علوش)، الراوى الذى يؤديه بالصوت أحمد حلمى يعلق على هذه الحياة المثالية، التى تكاد تعزل الأسرة المسيحية عن مجتمعها بأكمله، لا نشاهد سوى علاقة صداقة بين هانى وشاب مسلم اسمه أمين، لا نعرف عنه سوى أنه يحاول أن يكمل تعليمه، فجأة يموت والد هانى بطريقة هزلية مفاجئة، وتضطر أمه كريستين إلى نقل طفلها الوحيد إلى مدرسة حكومية، ولا تنسى (دون أن نفهم دافعها إلى ذلك) أن تحذر ابنها من إظهار هويته المسيحية، أو الحديث فى الدين مع زملائه، وعندما يصل هانى إلى مدرسته الحكومية تبدأ معاناته. تتضح مشكلة الدراما فى أننا تقريبا وحتى منتصف الفيلم، نفهم شعور هانى بالاغتراب على أنه بسبب فوضى الحياة التعليمية، فى الواقع نحن أمام وكر للجانحين وليس للتلاميذ، المدرسون أنفسهم أقرب إلى الفتوات، بل إن أحدهم اسمه شقاوة، ويحمل معه مطواة، نتيجة تحذيرات الأم لابنها، ونتيجة لا كتشاف هانى أنه الطفل الوحيد المسيحى فى الفصل، يقوم بإنكار هويته الدينية، ورغم ذلك تزيد عزلة هانى عن زملائه أساسا بسبب هذا التفاوت الفادح بين مستوى التعليم الحكومى، ومستوى التعليم الخاص، هم أصلا لا يعرفون هويته الدينية، ولكنهم يشعرون بأنه متميز عنهم طبقيا، ومع ذلك يواصل الفيلم رحلة هانى فى محو هويته الدينية لكى يقترب أكثر من زملائه، لدرجة أنه يغير من صور منزله التى تثبت هذه الهوية، حتى لا يراها زملاؤه عند زيارتهم له، بل إن هانى يشارك فى مسابقة للإنشاد الدينى الإسلامى، ويفوز فيها، كل ذلك فى محاولة لكى يتخلص من لقب «لامؤاخذة» الذى أطلقه عليه زملاء الفصل من باب السخرية من طبقته الرفيعة، ومن مهنة والده الراحل، وليس من دينه الحقيقى الذى أنكره. يبدو أن هانى متأثر بكلام وتحذيرات والدته، ويظل الفيلم مضطربا بين خطين: تمييز دينى هو المقصود، وفوضى تعليمية طاغية، حتى أمين صديق هانى القديم، يتحول إلى جفائه دون مبرر، وذلك عندما نراه وقد أصبح فجأة مدرسا للحاسب الآلى فى نفس مدرسة هانى الحكومية، ولكن كل هذا التملص غير المبرر من الهوية، لم يمنع من ضرب هانى على يد زملائه لسبب آخر، وعندما تذهب الأم كريستين، يكتشف الجميع أن هانى مسيحى، وهنا يتورط الفيلم فى مزيد من التحولات الغريبة. سبب مأزق السيناريو هو أنه جعل انكار الهوية هى الأساس، مع أنه لو أراد أن يوصل إلى المشاهد فكرة التمييز لفعل العكس تماما، أى إن يعلن هانى هويته المسيحية منذ اليوم الأول، فيؤدى ذلك إلى عزلته عن مجتمعه من التلاميذ الفتوات، وحتى عندما اكتشف التلاميذ أن هانى مسيحى، لم تنحل العقدة ولا العزلة، فقد تحاشاه الجميع، ليس لأنه مسيحى، ولكن لأنه من أسرة ميسورة، ولديه أم يمكن أن تدافع عنه، ووصل السيناريو إلى قمة اضطرابه فى الثلث الأخير من الفيلم، عندما تحول هانى إلى النقيض تماما، أصبح متطرفا فى الاتجاه المضاد، عنيفا يمارس الكاراتيه بدلا من كرة السرعة «!» ويشتبك مع زميله الصايع فى خناقة ساذجة للغاية، ينتصر فيها وسط تصفيق الجميع، وكأن طفلا تنازل عن هويته يمكن أن يتحول فجأة بهذا الشكل العجيب، وكأن صياعة التلاميذ توازيها صياعة هانى، وكأن الحكاية كلها مجرد لعب عيال، ومقالب مراهقين، أريد لها أن تحمل وتعبر عن قضية خطيرة للغاية، وهى التمييز الدينى. عمرو سلامة كانت تشغله قضية اغتراب أبطاله كثيرا فى فيلميه السابقين كمخرج ومؤلف وهما «زى النهاردة» و»أسماء»، بل إن قضية شخصية أسماء التى لعبتها هند صبرى فى هذا الفيلم الهام، لم تكن فقط نتيجة معاناتها من الآلام الجسدية إثر إصابتها بمرض الإيدز، معاناتها الأهم كانت بسبب حياتها فى مجتمع جاهل يسوده احتقار الآخر، ولكن أزمة الطفل هانى النفسية، لم يتم تأسيسها بشكل جيد، رغم الإعتراف بوجود الكثير من التفاصيل الذكية، سواء فى علاقة هانى مع والده الراحل، أو فى صداقته لطفلة جميلة اسمها سارة، أو حتى تفاصيل الطريقة الساخرة فى انتقاد فوضى التعليم الحكومى الذى نعرفه بالطبع، ولكن ظلت المشكلة واضحة فى أن العيب فى التعليم وليس فى التمييز، وأن وجود هانى فى مدرسته الخاصة، لم يكن سيعرضه لهذه البهدلة، لقد فشل المعادل الدرامى فى التعبير عن المعنى المقصود، هناك اجتهاد فى تنفيذ الفيلم، وأفضل إنجازات عمرو سلامة هى اختيار طفل موهوب اسمه أحمد داش حمل كل المشاهد تقريبا على كتفيه الصغيرتين، رغم أن معظم زملائه، وخاصة الطفل الذى لعب دور مؤمن، كانوا فى حالة مرتبكة، وينقصهم الكثير من التدريب، من الصعب أيضا الحديث عن أدوار حقيقية لكندة علوش وهانى عادل، لقد كانا ضيوفا على الفيلم مثل هند صبرى وآسر ياسين اللذين ظهرا فى مشهد واحد كعريس وعروسة.