المشروع الصهيونى يتضمن برنامجا شاملاً لتحقيقه، على المدى البعيد، ولكن مشكلة العرب أنهم يفتقرون إلى وجود ذاكرة للأمة تستعين فيها بعقول أبنائها، ولذلك سجل تاريخ إسرائيل منذ الهجرات الأولى فى نهايات القرن التاسع عشر تراجعاً مستمرًا للعرب وتقدماً مستمراً للمشروع على الأرض. ولسنا بحاجة إلى تسجيل وتوثيق ظاهرة التراجع العربى والتقدم الصهيونى بالتفصيل، فذلك محله المجلدات ومراكز البحوث، ولكن تكفى الإشارة إلى بعض المحطات منذ قيام إسرائيل عام 1948. باختصار العقل العربى يعيبه القصور وعدم النظرة الاستراتيجية والاستجابة لدواعى التردد والتأثر وهو ما يفتح الباب أمام الموساد والإعلام الصهيونى للتغلغل فى الأوساط الحاكمة والشعبية العربية لضعف المناعة السياسية، والاعتماد على خلفية الهيمنة الأمريكية. تصر إسرائيل على ضرورة اعتراف العالم والفلسطينيين بها على أنها دولة يهودية رغم أنها فعلا دولة لليهود، ولا يتمتع غيرهم ممن يحملون جنسيتها، وهذه الخطوة هى تقريباً المراحل الأخيرة للإجهاز على الوجود والهوية الفلسطينية على النحو المفصل الذى سنقدمه فى هذه المقالة. ويمكن القول إن الإصرار على إنشاء دولة يهودية خالصة وليس فقط دولة لليهود ارتبط بفكرة الدولة كرأس حربة للمشروع الصهيونى، فيما عرضه هرتزل فى كتابه «الدولة اليهودية» عام 1896 واعتمد المؤتمر الصهيونى الأول فى مدينة بازل السويسرية باعتباره برنامج عمل الحركة الصهيونية. فاعتمد المشروع على الهجرة وصناعة واقع على الأرض وحماية هذا الواقع بالقوة العسكرية والتحالفات الدولية، ثم كتبت أولى شهادات الميلاد للمشروع فى الثانى من نوفمبر بوعد بلفور 1917 خلال الحرب العالمية الأولى وحيث لعبت بريطانيا الدور الاساسى والمحورى فى إنشاء إسرائيل بالتناغم مع الولاياتالمتحدة، مرورا بمؤتمر السلام فى فرساى وصك الانتداب وقهر المقاومة الفلسطينية للهجرات والقرى اليهودية. تعهدت بريطانيا العظمى فى وعد بلفور بتمكين اليهود من إنشاء وطن قومى لهم فى فلسطين ولم تقل بجعل فلسطين كلها وطنا قوميا لهم بما يسمح لغيرهم من الفلسطينيين بالعيش وهو ما أكدته لجنة موريسون أن الدولة اليهودية تتجاوز تصريح بلفور والانتداب ولكن المشروع كان يأخذ المتاح ويسعى إلى الباقى. ولما صدر قرار التقسيم فسره المشروع على أنه مكافأة النضال اليهودى ضد الاحتلال البريطانى ومعاناة اليهود وتشتتهم خارج فلسطين لآلاف السنين، وبأنه اعتراف من المجتمع الدولى بأن لليهود مكانا فى فلسطين صغر أم كبر وهم يرون أن موقف المجتمع الدولى هو ما تصنعه القوة على الأرض. ولذلك لم تجد الحركة الصهيونية مانعا من قبول المشروع الذى سعت إليه بحالته مع الحرص على النص على تقسيم فلسطين بين دولة يهودية ودولة عربية، فالتعريف بالعرق وليس بالدين، على أساس أن اليهود عرق فى نظرهم وحتى فى نظر المعارضين لمشروعهم مثل اليهودى اللبرالى ناعوم تشوموسكى الذى يعارض الدولة اليهودية لكنه يؤيد الوطن القومى للعرق اليهودى بأحقية وسمو العرق اليهودى على الفلسطينى الذى لا يملك القدرة على التمتع بالحق فى تقرير المصير، وكذلك الحق فى الحرية والديمقراطية بصرف النظر عن الخرافات التوراتية. وكان شارون أول من جدد الدعوة إلى يهودية الدولة بشكل رسمى فى خطابه أمام الرئيس الأمريكى بوش فى مدينة العقبة عام 2003 بحضور مبارك ومع ذلك لم تقع على أى رد فعل عربى أو رد من أبو مازن رئيس الوزراء آنذاك، بينما عرفات حددت إقامته منذ 2002 قبيل إعلان القمة فى بيروت مشروع إبراء الذمة المعروف بالمشروع العربى للسلام، رغم أن كولن باول وزير الخارجية الأمريكى دعا الفلسطينيين إلى الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. وتبنى بوش فى خطبه هذه الفكرة وبلغ قمته فى خطابه الوداعى فى الكينيست فى مايو 2008 ويقال أن المصطلح ورد فى خطابات الضمان التى تسلمها شارون من بوش فى 24 إبريل 2004 وقلبت الموقف الأمريكى رأسا على عقب، وأكملت قانون الكونجرس فى نوفمبر 2002 خلال الإعداد لغزو العراق، الذى ألزم الإدارة بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل. هكذا تمكنت إسرائيل من تكريس الفكرة وتسويقها ودعمها على المستوى الداخلى فى وقت مبكر عندما أصدرت قانون العودة لليهود 1950ثم سهلت الحصول على الجنسية اليهودية، حتى ألح نتنياهو على الفكرة كشرط للتفاوض مع الفلسطينين، بعد أن استخدم أوباما المصطلح فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر 2010. وكان أولمرت قد طرحها كشرط لعوة محادثات السلام مع الفلسطينيين. فهل يدرك الفلسطينيون تداعيات هذا الشرط.؟. ونظراً لخطورة الآثار المترتبة على ذلك فإن الشعب الفلسطينى بأكمله فى الداخل والخارج هو صاحب القرار وليس رئيس السلطة ذات الطابع الإدارى المحدود والذى ستعينه إسرائيل بعد الاعتراف بيهوديتها التى تستبعد الشعب الفلسطينى من المعادلة تماماً.