ياله من نجم بجد، مثير للجدل والاندهاش حتى بعد وفاته.. فالصعلوك الذى عاش بيننا أكثر من ستين عامًا عادى فيها كل الأنظمة الحاكمة وهى فى عز جبروتها وسطوتها.. وكان خارج السياق تمامًا فى كل شىء، لم يتوظف فى دولابها الحكومى، لم يقبض من رواتبها، لم يفز بأى من جوائزها، لم ينضم إلى مؤسساتها أو مجالسها.. عاش فقط فى الشارع وللشارع وبالشارع، احتمى بجمهوره الواسع الممتد بطول الوطن العربى، وبطغيان حضوره الإعلامى، وصورته التى لم يغيرها ولم يتنازل عنها.. من يصدق أنه بعد كل هذا يقوم بنعيه المتحدث العسكرى الرسمى، ويعزى فيه أمين عام الجامعة العربية وأيضًا رئيس الوزراء، وتنتفض مؤسسات الدولة الرسمية لتأبينه والجرى وراء سيرته وتخليده.. ونتوقع فوزه أخيرًا بأهم جوائزها. ماذا نقول عن شاعر وسياسى عاش تحت الضوء طوال الوقت، وقال كل شىء وفعل ما يفعله بوضوح وفخر وأمام كل العيون والعدسات، خاصة بعد أن تحول إلى ظاهرة مدوية مع صديقه الشيخ إمام، وحظيا بتتبع كامل وملاحقة إعلامية دائمة لسكناتهما وتحركاتهما.. وماذا يكتب عن رجل كتب قبل وفاته بأكثر من عشر سنوات مذكراته الشخصية مرة ومرتين، مرة بعنوان الفاجومى ومرة شاعر تكدير الأمن العام، والوحيد تقريبًا الذى رأى وعلق على فيلم سينمائى عرض فى دور السينما يروى قصة حياته الشخصية وذلك عام 2011 بنفس اسم الفاجومى بطولة خالد الصاوى وجيهان فاضل وصلاح عبد الله.. ماذا تقول أو تكتب عن رجل حكى وسرد عن حياته وعلاقاته عشرات المرات فى عشرات البرامج الفضائية وكان يفعل ذلك بصراحة ويقول أراءه أحيانًا بقسوة وفجاجة تثير الخصومات والعداوات.. ولعل آخرها ما كان بينه وبين الشاعر الكبير سيد حجاب، والذى وصل الأمر بينهما إلى درجة التقاضى، حتى تدخل بعض الأصدقاء للصلح بينهما وتم مؤخرًا. ومع هذا وبرغم هذا تبقى حياة الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم مثيرة للاهتمام ومليئة بمتعة القراءة، ونظل أمام كنوز من المفاجآت والمدهشات ستكتشف بعضها سواء سمعته أو قرأته شعرًا أو نثرًا.. وهو ما نفعله الآن بإعادة تصفح مذكرات الفاجومى التى نشرت عام 1993 عن دار سفنكس وكتب لها مقدمة بديعة الكاتب الكبير صلاح عيسى.. يحكى أحمد فؤاد نجم أنه ضعيف جدًا أمام سحر بنات حواء رضى الله عنها وأرضاها، وإنه متقلب المزاج ومتعدد العلاقات، والحماقة تلازمه وتسبب له المشاكل ووجع القلب شيبتنى يا زمن وأنا ما استحق الشيب وخدت منى الحبايب ولا اختشيت العيب وكيف أنه وهو صبى صغير قالت له قريبته الحليوة التى تزغلل عينيه «أنت عفريت وأنا باحب العفريت» فألقى بنفسه فى الترعة وهو لا يعرف العوم وكاد يموت. ونتعرف عليه أكثر «أطلق عليه أبوه على سبيل التيمن باسم صاحب الجلالة أحمد فؤاد ملك مصر فى ذلك الزمان، لكن الرياح أتت بما لا يشتهى والده ضابط البوليس «الفاقد» عزت أفندى نجم، فمات تاركًا أصغر أبنائه ليواجه المصير الطبيعى لطفل يتيم فقير ابن فقراء ويتامى.. وتثقل مئونته الواهية على أقاربه، فيبحثون عن داهية يودعونه فيها فلا يجدون إلا ملجأ للأيتام بمدينة الزقازيق، وبين زحام اليتامى والفقراء يغيب فى فترات صمت طويلة حتى يبدو لمن يحيطون به أنه نسى الكلام، وتقرب مشاعر الوحدة بين جدران الملجأ بينه وبين يتيم وحيد نحيل من زملائه، ينتمى لقرية الحلوات القريبة من قريته اسمه عبد الحليم شبانة وفى حجرة الموسيقى بالملجأ، يكتشف الاثنان أن الغناء يغزى المحروم ويؤنس غربة اليتيم، فيفنيان ويحفظان ويعشقان الطرب، ويصبح ثانيهما فيما بعد هو عبد الحليم حافظ.. أما أحمد فؤاد فقد غادر الملجأ كما دخله يتيما فقيرًا ووحيدًا، ليندفع فى تيار الوحدة ويعيش حياة الصعاليك يلتقط رزقه من بين أنياب الوحوش فى بلد محتل، وأصبح أجيرًا فى أحد التفاتيش الزراعية المملوكة لصاحب الجلالة ولكن الحظ السيئ يترصده فيفصل من وظيفته، ليعيش عاطلًا فترة، إلى أن يجد عملًا فى معسكرات جيش الإحتلال، ويتركه فى نهاية عام 1951 مع آلاف العمال المصريين الذين استجابوا لنداء حكومة الوفد لترك العمل فى المعسكرات لإجبار المحتلين على الرحيل بعد أن ألغت الحكومة معاهدة 1936.. وتفى الحكومة بوعدها فتعوضه عن وظيفته التى تركها بأخرى فى أحد فروع هيئة السكك الحديدية.. وبعد سنوات يفكر فى أن يتزوج فلا يجد مالًا ولا سكنًا.. وببساطة يشترك مع أحد السعاة فى تزوير بعض المستندات ويتقاسمان مقابلها المادى، إلى أن يأتى اليوم الذى يجد نفسه فى السجن يقضى عقوبة مدتها ثلاث سنوات مدانًا بتهمة التزوير واختلاس الأموال الأميرية.. ويفرج عنه فى عام 1962 ويذهب ليبحث عن غرفة يقيم فيها، وتقوده أقدامه إلى حارة مملوكية قديمة تسمى حارة حوش قدم ومعناها بالفارسية قدم الخير.. وهناك يلتقى بمغن ضرير صعلوك بدأ حياته مقرئًا للقرآن ثم مؤذنا ومنشدًا فى حلقات الذكر، ثم عمل سنيدًا مع الشيخ زكريا أحمد، فيتقاسمان غرفة فى أحد بيوت الحارة، ويكونان دويتو يجوب الأفراح وحفلات الطهور وجلسات المزاج التى يقيمها أهالى القاهرة الفاطمية ومجاور الأزهر والحسين.. واستمر الحال هكذا دون تغيير يذكر إلا فى بعض التفاصيل، حتى جاءت النكسة وزلزالها المدوىِّ حيث اختفى نجم فى حجرته الضيقة أيامًا وخرج بعدها وقد كتب البلاغ رقم واحد لتمرد الجيل، وفى ساعات كان صديقه الشيخ إمام عيسى قد لحن القصيدة -خبطنا تحت بطاطنا-، وتعالوا نقرأ وصف صلاح عيسى لما حدث وقتها، أقامت أشعاره الدنيا وأقعدتها... وكتب عنه لويس عوض ومحمود أمين العالم ورجاء النقاش، وطلب محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين أن يستمعا إليه، واختلف نقاد الموسيقى والشعر حول قيمة أشعاره وألحان صديقه حتى كادوا يمسكون بتلابيب بعضهم البعض، وأعدت عن أشعاره رسائل ماجيستير ودكتوراه فى عدد من جامعات العالم. وتكالبت عليه كل قوى المؤسسة لكى تغريه بذهبها وقصورها وإذاعاتها وميكروفوناتها وصحافتها، أو ترهبه بسيوفها وسجونها وجلاديها ولكنه وهو فى الأربعين كان قد اتخذ قراره وأقسم ألا يتراجع حتى ولو كان المصير هو المشنقة. وما بين خريف 1967 وصيف 1968 كان نجم قد أصبح نجمًا تنشر الصحف أنباءه، وتجرى المجلات معه الأحاديث ويتزاحم وجهاء المجتمع لكى يدعوه إلى بيوتهم ليستمعوا إليه، ويخصص التليفزيون برنامجًا خاصًا بعنوان مع أشعار نجم وألحان الشيخ. وذات يوم تلقى الرئيس عبد الناصر تقريرًا من أجهزة الأمن حول ظاهرة نجم/ إمام، جاء به أنهما يذيعان أشعارًا مناهضة للحكم، ورغم ذلك فإن الصحف تتحدث إليها ويذيع التليفزيون برنامجًا يتضمن أغانيهما، فطلب أن يستمع إلى أغانيهما ، ثم استدعى إليه وزير الإعلام الأستاذ محمد فائق وسأله... إزاى سايبنهم يقولوا الكلام ده.. ما اعتقلتوهمشى ليه وقال الوزير إن البلد مجروحة بسبب الهزيمة وإن من مصلحة النظام أن يسمح بفرصة محسوبة للتعبير عن آلام الجراح، لكن عبد الناصر الذى كان ككل الثوار يتألم إذا ما نقده ثائر قال بغضب بلا مثقفين بلا كلام فارغ.. اعتقلوهم ورغم ذلك فقد رثاه نجم بعد عشرين عامًا بقصيدة قال فيها: مين ده اللى نايم وساكت والسكات مسموع سيدنا الإمام ولاصلاح الدين ولا كلام بالشكل ده ممنوع .. عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت وعاش ومات وسطنا على طبعنا ثابت وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت ولا يطولوه العدا مهما الأمور جابت ومن أشعاره الجميلة: ياحبيبتى قلبى عاشق واسمحى لى بكلمتين كلمتين يامصر يمكن هما آخر كلمتين حد ضامن يمشى آمن أو ضامن يمشى فيها