فى نشرة الأخبار الرئيسية بالقناة العاشرة والتى تسجل أعلى نسبة مشاهدة، عرضت حلقات برنامج وثائقى عنوانه «حكم الحاخامات».. وتناولت حلقاته حال المجتمع الإسرائيلى إذا تحققت نبوءة مكتب الإحصاء المركزى بتحول التيار السلفى اليهودى إلى الأغلبية ومن ثم السيطرة على السلطة فى الدولة. وفور إذاعة الحلقات تحولت النبوءة لدى غيرهم إلى كابوس مرعب ومخيف.. فهؤلاء كانوا على الهامش مع قيام الدولة.. وشيئا فشيئا سلمت لهم الدولة ببعض الامتيازات، كالحكم الذاتى فى التعليم، والإعفاء من الجيش، وتعريف من هو اليهودى.. الآن خرجوا عن السيطرة وكله بمرجعية دينية، يرجمون، ويضربون ويفرضون الإتاوات، ويفرضون على نسائهم ارتداء «النقاب»، ويحرمون كل جديد، والرد لديهم حاضر.. «التوراة تحرم الجديد والتجديد». كانت مدة عرض حلقات البرنامج ثلاثين دقيقة، لكنها أثارت لدى الإسرائيليين حالة من الهلع، ترجمها أحد المشاهدين فى خطاب بعث به لموقع حاخام شهير منهم، يستفسر فيه عن مصيره لو تحققت النبوءة وفرضوا قوانينهم على الدولة، ويقول إنه مؤمن بالغضب اليهودى، لكنه لا يلتزم بوصايا احترام قدسية يوم السبت، لذلك يريد الاطمئنان على حياته إن كان سيعاقب بالرجم تطبيقا لنص الشريعة أم يسارع بحزم حقائبه والرحيل عن دولتهم. وجاء رد الحاخام عليه هادئا ناعما قائلا: «إذا حكم الحاخامات الدولة، وأصبحت التوراة النبراس والطريق، والتزم بهما الشعب فلن تجد فيها جريمة، ولا بغاء بل رخاء واستقرار». فهل صدق الحاخام القول؟ أم لم يصدق؟، فالقول الفصل فى الأمر جاء فى اعتراف شخص كان يعمل لديهم فى فرقة تسمى «المحافظة على الاحتشام». تحدث عن الأيام التى قام فيها بتنفيذ أوامر التأديب للشاردين عن النظام. نظام وضعه الحاخامات، الذين اعتادوا الجلوس فى الطرقات ومراقبة سلوك المارة، فإذا شاهدوا امرأة تسير فى الطريق حاسرة الرأس يأمرون بضربها، وأحيانا يكون الضرب مؤلمًا بشدة لدرجة طرحها أرضا، وتوضع الأقدام على رأسها ورقبتها إلى أن تتعهد بالتكفير عن ذنبها وارتداء غطاء للرأس، أما الرجال الشاردون عن الالتزام فيأمر الحاخام بتكسير عظامهم، إما ذراع أو ساق، وفى بعض الحالات تفرض غرامات تتراوح ما بين الألفين والعشرة آلاف دولار. هؤلاء الحاخامات هم فى قيادات تيار السلفية اليهودية وتقدر نسبتهم فى المجتمع الإسرائيلى حاليا بحوالى 12% من تعداد اليهود الإسرائيليين، ويبشرنا مكتب الإحصاء المركزى بأنهم سيتحولون لأغلبية بنسبة 40% حيث نسبة زيادتهم السنوية يقدرها ب 850%، ومتوسط أبناء العائلة سبعة أطفال. عرض البرنامج آثار ردود فعل عنيفة لدى الجانبين.. وظهرت فيه شخصيات تسخر من مجرد طرح الفكرة للمناقشة، وأنهم سيكونون أول من يهرب من الدولة إذا سيطر عليها هؤلاء السلفيون. على الجانب الآخر سعى رجالات السلفية اليهودية لتهدئة المرعوبين منهم بالتأكيد على أنهم ليس كما وصفوهم بصفة الوحوش القادمة من عصور ما قبل التاريخ، وبأنهم جزء من شعب واحد، وتحولهم للأغلبية ربما هو تغيير للأفضل. عند قيام الدولة كان تعدادهم يتراوح ما بين ثلاثين وأربعين ألفا، ألقيت لهم بعض الامتيازات التى بدت صغيرة جدا فى ذلك الوقت مثل الحكم الذاتى فى التعليم والإعفاء من التجنيد لكنهم تغولوا على الدولة بعد حرب 1967، وهم ينقسمون إلى تيارين: الأول: يعد الأكبر والأقوى ويصنف بأنه غير صهيونى، لكن قياداته تقر بوجود الدولة الصهيونية، وقوانين الدولة التى لا تتعارض مع الشريعة اليهودية، وهم شركاء فى الحياة السياسية، شراكة تهدف إلى تعزيز مكانتهم من خلال فرض التشريعات الدينية على الحكومات المتوالية ويمثلهم فى البرلمان الحالى ثلاثة أحزاب هم «البيت اليهودى» يشغل أعضاؤه فى الكنيست 12 مقعدا، وحزب «شاس» اتحاد الشرقيين العالمى للحفاظ على التوراة يشغل 11 مقعدا، وحزب «يهودية التوراة» وهو اندماج بين حزبى أجودات يسرائيل وديجل هاتواره». أما التيار الآخر وهو معادٍ للصهيونية ومن التيارات المتطرفة التى تحولت إلى أقلية معدومة التأثير فى السياسة الإسرائيلية وأبرز نماذجه الجماعة التى يطلق عليها «ناطورى كارتا» - حراس المدينة - حيث لا يتجاوز عددهم عدة مئات، وطائفة أخرى تسمى «حسيدى ساتمار» أو «أوبارسلاف». ورغم أن القانون الأساسى للدولة ينص على حرية العقيدة الدينية لكل المواطنين إلا أن زعامات هذا التيار السلفى فى حالة تفكير دائمة لمن يصفون أنفسهم بأنهم دنيويون وهؤلاء يشكلون نسبة 30% من المجتمع الإسرائيلى وهم الجماعة الوحيدة فى إسرائيل التى لا تستند هويتهم على مرجعية دينية، البعض منهم يتذكر للألوهية، وآخرون يرون أنهم يهود لأنهم نتاج تاريخ وثقافة مشتركة، ويطالبون بالفصل التام بين الدين والدولة وإلغاء القوانين والمؤسسات الدينية مثل المحاكم الحاخامية. والحكومات الإسرائيلية منذ عام 1970 سلمت الجماعات السلفية بإقرار ما يسمى «قانون الأمر الواقع»، وذلك بالامتناع عن إصدار القوانين المتعلقة بعلاقة الدين بالدولة والاكتفاء باتفاقيات تشكيل الحكومات بين الأحزاب، وذلك تخوفا من الاصطدام بهم والحفاظ على حالة التوازن بينهم وبين قطاعات المجتمع الأخرى فى مجالات احترام قدسية يوم السبت، والطعام الحلال وشئون التعليم. فحتى الآن لم يصدر قانون خاص بقضية يوم السبت. فالحكومات تركت تنظيمه للسلطات المحلية. فإغلاق المحال التجارية يتم بتطبيق قانون ساعات العمل والراحة الذى حدد يوم السبت إجازة أسبوعية لليهود. رموز دولة السلفيين اليهود سيستمرون فى تمييز أنفسهم عن غيرهم بارتداء نفس الأزياء التى كان يرتديها أجداد أجدادهم قبل ما تكون لهم دولة، وهى الأردية السوداء التى تغطى الجسد كله وتنساب حتى منتصف الساق، فوق الكعب بحوالى عشرة سنتيمترات، يقال إن الأصل فى اختيار اللون الأسود للذكور، رجالا وأطفالا لأنه يضفى وقارا وحشمة، بينما يوجد تفسير آخر وهو أنه حزنا على تدمير الهيكل. وكل منهم يرتدى غطاء للرأس يختلف وفق المنشأ الذى جاء منه، فمن أتوا من شرق أوروبا يختلفون عمن قدموا من غربها، ورغم أن ارتداء الطاقية ليس أمرا حتميا إلا أن مفسرى التوراة الأوائل أوصوا بارتدائها أثناء الصلاة فى المنزل أو فى المعبد. وأضافت أجيال لاحقة من المفسرين أكثر تشددا بتحريم السير فى الطريق العام بدونها لمسافة تزيد على أربع أذرع، وهى صغيرة وباللون الأسود تغطى الجزء العلوى من الرأس. ونساؤهم تفرض عليهن التزامات كثيرة، منها ارتداء «النقاب» عند الخروج من المنزل وباللون الأسود دليل على الحشمة والعفة والطهارة، ويجب أن يغطى المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها، وبعض المفسرين يسمحون للمرأة بالكشف عن إحدى عينيها إن كان بها مرض يعوق السير الآمن فى الطريق، والآن يفرض النقاب أيضا على الفتيات الصغيرات، ويشاهدن بكثرة حاليا فى مدينة القدس ومستوطنة ميت شيمس ويقدر عددهن بحوالى عشرة آلاف سيدة. وانتهت حلقات البرنامج وانشغل المجتمع الإسرائيلى بالتساؤل، ماذا سيحدث لو تولى السلفيون اليهود مقاليد السلطة فى الدولة؟ وبدورنا نطرح التساؤل عن مصير المفاوضات الفلسفية الإسرائيلية مع طرف عقيدته سياسية، وبمرجعية دينية، الاستيلاء على كل الأرض من البحر إلى النهر.