هذه صفحات من كتاب «ما بعد إسرائيل» الذى صدر مؤخراً.. للكاتب السياسى أحمد المسلمانى. فى هذا الكتاب الذى نفدت طبعته الأولى فور صدوره، وتنشر «الوطن» أحد فصوله، يتحدث الكاتب عن الدين والسياسة فى إسرائيل،عن المتدينين اليهود الذين يريدون تطبيق الشريعة، ويرون أنه من لم يحكم بما أنزل الله فى التوراة هم حكام كافرون. وهم من يرون أيضاً أن الموسيقى حرام، والغناء حرام، والفنون حرام، ووجه المرأة عورة، وصوت المرأة عورة، وحياة المرأة هى رحلة واحدة من المنزل إلى القبر. وهم من ينتقدون نتنياهو كل يوم لأنه لا يطبق الشريعة ولا يُقيم الحدود من قطع يد السارق إلى جلد شارب الخمر إلى رجم الزانى. ويرى الكاتب أن تطبيق «الشريعة اليهودية» فى إسرائيل سيدفع إسرائيل للمزيد من العداء للإسلام ولكنه سيدفع -فى الوقت ذاته- بإسرائيل إلى الهاوية.. سوف تشهد إسرائيل «ربيع الدين» ولكنها ستشهد معه «خريف الدولة». (1) يرجع المؤرخون بأصول «الصهيونية الدينية» إلى أواخر القرن التاسع، وإن كانت أصولها الفلسفية تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادى على يد الحاخام «موشى بن نحمان».. الذى اعتبر «أورشاليم» مركز أرض إسرائيل والمكان الوحيد لتأدية الوصايا العشر، وجعل الاستيطان فيها فريضة تعادل كل فرائض التوراة مجتمعة. ومن ثم فإن «الصهيونية الدينية» كانت المدد لترويض معطيات عصر الحداثة، فهيأت السبيل لدولة تقوم على الأسطورة فى عصر العقل، وعلى الأمة فى زمن الدولة. و«الصهيونية الدينية» تتوسط «الصهيونية السياسية» و«الأصولية اليهودية» ونعنى بالأصولية اليهودية هنا.. الأرثوذكسية اليهودية. فبعض الحاخامات من عناصر «الصهيونية الدينية» يطالبون بالانفصال عن العلمانيين، ودعا أحدهم إلى تغيير النشيد الوطنى للدولة.. لأنه من عمل الصهيونية، وإحلال المزمور السادس والعشرين من التوراة مكانه. وأما عناصر «الأرثوذكسية اليهودية».. فهم من قدامى المؤمنين، هم منشغلون بقراءة التوراة واستيعاب التلمود.. الكتاب المفسر للتوراة.. وهم لا يزالون قابضين على آرائهم العتيقة.. فالشعب اليهودى هو شعب الله المختار وعليه أن يبقى ساكناً فى انتظار قدوم المسيح! (2) تشهد الحياة السياسية فى إسرائيل على أن الحكومات المتعاقبة فى الحكم ورموز الدولة كانوا يدللون التيار الدينى باستمرار، ولا يكاد يوجد شخص واحد فى الحياة السياسية الإسرائيلية لم يشهر فى يديه «التوارة» يوماً، أو يقتبس منها ما تيسر من القول. كان البعض منتبهاً لخطر ذلك، وكان هرتزل وايزمان من بين أوائل من تنبأوا بخطر الدين ورجال الدين على المشروع الصهيونى. يقول «هرتزل» فى كتابه «دولة اليهود» فى وضوح: «يجب أن نجعل رجال الدين اليهود ضمن حدود معابدهم بنفس الطريقة التى سوف نجعل فيها الجيش المحترف ضمن حدود ثكناته، ويجب أن ينعم الجيش ورجال الدين بالاحترام البالغ الذى يستحقونه، ولكن لا ينبغى أن يتدخلوا فى إدارة الدولة التى تضفى شرعية عليهم، وإلا فسوف يثيرون صعوبات لأنفسهم ولغيرهم». ويذكر «وايزمان» فى مذكراته التى كتبها بعد إعلان قيام إسرائيل.. «إن من واجبنا أن نوضح للجماعات الدينية اليهودية من البداية المبكرة.. أن الدولة بينما تحرص على احترام المشاعر الدينية الصادقة على نحو كبير، لكنها لا تستطيع أن تدير عقارب الساعة إلى الوراء من خلال جعل الدين المبدأ الرئيسى فى سلوك الدولة، وينبغى أن يقتصر الدين على المعابد وبيوت تلك العائلات التى تريده، ولكن لا ينبغى له أن يراقب وزارات الدولة». وكان حاييم وايزمان يرى فى الدين أفيوناً لليهود، ومصدراً رئيسياً للسلبية والكسل، لأنه يعزز فكرة أن قراءة التوراة والصلاة أفضل من العمل الجسدى، وبالتالى يخلد الاعتماد على الصدقة التى تذل النفس وتحط من قدرها.. «فمدينة القدس مثلاً.. مدينة تعيش على الصدقة ورسائل جمع التبرعات وأموال الأعمال الخيرية». (3) يروى «لورانس ماير» أنه كان يستعد للذهاب إلى القدس، فسأله أحد الإسرائيليين: «هل أنت ذاهب إلى القدس؟ إننى لا أطيق الذهاب إلى هناك بسبب جميع هؤلاء المتدينين الكاذبين». ومرة كان أحد الإسرائيليين يقوم بتعبئة «نموذج» لتصريح رسمى، واكتشف الموظف حذفاً مقصوداً فى تعبئة النموذج. سأل الموظف: «إنك نسيت أن تكتب ديانتك، وسوف أكتب أنك يهودى».. قال الإسرائيلى: «لقد تركت الفراغ متعمداً، لا تكتب أى شىء، فإننى لا أومن بأية ديانة». قال الموظف: «ولكنك يهودى». وأصر الآخر على القول «اترك الفراغ على حاله.. لست مؤمناً». وفى رواية ثالثة، يقول أحد الإسرائيليين: «إننى لا أرغب فى الاستيقاظ مبكراً، إن يوم السبت هو اليوم الوحيد الذى يمكننى أن أنام فيه حتى وقت متأخر، لولا أصوات هؤلاء المصلين». إنها حالة النقمة على الدين وعلى المتدينين فى إسرائيل، فقد ضجّ العلمانيون بتصاعد المد الدينى، وبتحوّل إسرائيل التدريجى من ادعاءات الحداثة والعقلانية إلى سراديب المبكى وغياهب التلمود. (4) ذكرت مجلة «التايم» فى تحقيق مطول أجرته مطلع عام 1997م، أن عدداً من اليهود الغاضبين يطالبون بثلاث دول، دولة فلسطينية، وأخرى يهودية علمانية، وثالثة يهودية أصولية، وأن الفكرة تحظى بنقاش حاد فى إسرائيل! ويعد الروائى اليسارى «يورام كانويك» والصحفى (الأمريكى المولد) «زئيف تشافيتش» من أبرز الداعين لفكرة «الدول الثلاث». فالأصولية اليهودية تدعو إلى أفكار تتعارض مع مصالح إسرائيل، ومع رغبات معظم الإسرائيليين، ويقولون إن الرد هو «الطلاق» و«التقسيم» على مستوى طائفى.. وبمعنى آخر.. تصبح دولة إسرائيل للعلمانيين، ودولة «يهودا» للمتطرفين. ويذكر «كانويك» فى حديثه إلى «التايم»: «إنهم لا يأكلون معنا، ولا يرغبون فى الزواج منّا».. «إذن فليأخذوا الأرض الجبلية الجميلة فى القدس والخليل ويفعلوا ما يسرهم، ونحن نستمر فى بناء دولتنا فى تل أبيب». ويذهب «تسفى بارئيل» الصحفى فى «هآرتس» إلى أن ما يحدث من تطاول من المتطرفين على العلمانيين كارثة، وأن إسرائيل هى الدولة الوحيدة فى العالم التى يسمح فيها لأقلية مدللة (10%) من السكان مثل الأصوليين السيطرة على الآخرين. على الرغم من أن الأصولية اليهودية قد صعدت فى إسرائيل فى أعقاب حرب 1967، فإن وصول نتنياهو إلى السلطة فى عام 1996م كان دافعاً قوياً لاستفحالها. اعتاد نتنياهو أن يغازل التيار الدينى، وأن يجامله فى الميزانيات وفى المشاركة فى الحكومة والمؤسسات. وكانت السنوات الثلاث التى قضاها نتنياهو فترة مد أصولى بلغ مدى غير مسبوق، وفى عهده كانت الاشتباكات تقع فى الشوارع بين الفريقين، وراح العلمانيون يفكرون فى تقسيم البلاد وإلا فستكون حرباً أهلية فى دولة يصعب بقاؤها يوماً آخر فيما لو وقعت مثل هذه الحرب. (5) وقد وجد العلمانيون فى «إيهود باراك» منقذاً علمانياً لكارثة الأصولية اليهودية، ووجد «باراك» نفسه هو الآخر مدفوعاً لإعلان ثورة علمانية ولإعطاء وعود بكسر شوكة الأصوليين. أعلن «باراك» فى 20 أغسطس 2000 بدء ثورة علمانية فى إسرائيل، والسعى لإقرار دستور للبلاد، وإصلاح النظام التعليمى، وإتاحة فرصة الحصول على العلوم للجميع، وإلغاء وزارة الأديان، وتدريس الإنجليزية والرياضيات لجميع التلاميذ الإسرائيليين خاصة الذين يدرسون فى المدارس الدينية التابعة لحزب شاس، وإصدار قوانين جديدة للزواج المدنى، وحقوق المرأة. وكلّف «باراك» لجنة وزارية تضم وزراء العدل والخارجية بالوكالة وشئون الشتات.. يوسى بيلين، وشلومو بن عامى، وميخائيل ملكيور وذهب «دان ميرودور» فى مناقشات الكنيست.. إلى ضرورة أن ينص الدستور على حرية التعبير والمساواة بين الذكور والإناث واليهود وغير اليهود.. ورأى أن الأحزاب الدينية تمثل تعبيراً منحرفاً لليهودية. (6) ومِثل آلاف اللجان فى العالم الثالث.. لم تفعل اللجنة المشكلة شيئاً، وتغلبت الأصولية على العلمانية. وأعلن زعيم حزب شاس «ايلى يشاى» أن سنّ الدستور يمس القيم اليهودية، ويؤدى إلى حرب ثقافية وحضارية، وأنه سيحدث انشقاقات فى صفوف الشعب اليهودى. وذهب «موشى جافنى» النائب الأصولى إلى أن مقترحات «باراك» تنطوى على عدم المسئولية، وتسىء إلى دولة إسرائيل بصورة خطيرة. وأما «باراك» نفسه، فلم يكن فى حاجة إلى مجهود كبير لينقلب على نفسه، وفى مفاوضات «كامب ديفيد» كان يطالب بسيادة على المسجد الأقصى وما تحته.. حيث أنقاض الهيكل، وتذكر بعض التحليلات أن «باراك» كان على وشك تبنى دعوة الأصولية اليهودية بتدمير المسجد الأقصى ومحاولة بناء الهيكل مكانه!