كيف يدخل المسلمون دورة حضارية جديدة؟ سؤال يطرح نفسه بعد أن أسدل الستار عليهم وظلوا خارج التاريخ لفترة طويلة.. بعد أن أفردنا الأسابيع السابقة عوامل نبوغهم فى العصور الوسطى، والأزمة التى يمر بها العالم الإسلامى والعربى اليوم أزمة فكرية وحضارية مست شتى الجوانب الدينية والسياسية والاقتصادية.. وبداية اليقظة والانطلاق فى معالجة قضايا المجتمع من الناحية التربوية والتعليمية وربطها بالعقيدة الدينية لتتماسك أواصر المجتمع وتعلو بخلق الإنسان، ثم تنتظر جنى ثمار التقدم.. ومن أجل ذلك لا بد من وضع خطة لاستشراف المستقبل على أكثر من صعيد ودولة لمواجهة التحولات الكبرى التى يشهدها العالم وضرورة اللحاق بها دون تقييد أو تقليد أعمى.. ولدينا نماذج كثيرة للتحدى وبعيدة عن العالم الغربى ومنها دولة عملاقة فى جنوب شرق آسيا تحدت طبيعتها القاصية و35 عامًا من الاحتلال اليابانى لها من 1910 إلى عام 1954 وقد دمر اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن فى ستة عقود فقط انقذت شعبها من السقوط إلى هاوية الفقر المدقع والتخلف الحضارى وأبهرت العالم بما أنجزته من تنمية وعكفت على بناء اقتصادها إلى أن وصف الخبراء الدوليون طفرتها الحضارية بأنها «معجزة نهر الهان» ألا وهى كوريا الجنوبية.. وإذا قارنا الفلبين بها منذ نهضتها فنجد الأولى كان إجمالى الناتج المحلى 6.9 مليار دولار، والثانية 1.5 مليار دولار فقط، أما فى عام 2007 وصل إجمالى ناتج الأخيرة إلى 696.8 مليار دولار، أما فى الفلبين فكان 144 مليار دولار، ويرجع إلى اهتمام كوريا بتنمية برامجها الاقتصادية ومجتمعها، أما الفلبين فاهتمت فقط بمصالحها الخاصة للصفوة وسيطرتها على الثروة فأهملت البلاد والعباد. وتحققت معجزة كوريا لإيمانها بأن التعليم المفتاح الوحيد للنجاح فى المستقبل والحاضر مع اتباع نظام تربوى يهتم بالتطوير النوعى من خلال بناء إنسان مبدع وملتزم بالأخلاق والعمل.. وبدأت بمرحلة رياض الأطفال بتنمية ذكائهم ولغتهم وغرس قيم التكيف الاجتماعى.. وفى المرحلة الابتدائية تم وضع مواد أساسية وهى التربية من أجل الأمانى ومن أجل التمتع بالحياة والتربية الخلقية أى أن الأولوية بناء إنسان سوى نفسيا وخلقيا وإعداده فى كيف يتوافق ويتكيف مع مجتمعه. والتزمت الحكومة بتعليم كافة أبناء الشعب والاستمرار فيه إلى أقصى حد ممكن وإزالة الحواجز أمامه حتى أن الكبار الذين تخلفوا عن التعليم أنشأوا لهم التعليم المفتوح.. حيث بلغت ميزانية التعليم 29 مليار دولار سنويا أى أكثر من 20% من ميزانية الدولة حيث يبلغ دخلها السنوى نحو 900 مليار دولار. وكوريا لا تقيم وزنا كبيرا للاختبارات التعليمية، بل تنصب اهتمامها بامتلاك طلابها المعلومات والمهارات والمفاهيم الأساسية ولو تطلب الأمر أن يستمر المدرسون إلى ساعات متأخرة من الليل مع الطلاب حتى تترسخ مفاهيمه العلمية وتنمو المعارف.. ولذلك منحت الدولة الكورية رواتب عالية للمدرسين لا تقل عن ألفى دولار شهريا، بالإضافة إلى الزيادات طبقًا لسنوات الخبرة والأنشطة الأخرى، وكذلك منحت وزير التربية والتعليم منصب نائب رئيس الوزراء ليعكس أهمية الدولة بدور التعليم وأنه لا يقل أهمية عن المناصب الوزارية السيادية الأخرى.. حتى المثل الشعبى كرّس هذه الاهتمامات فى قوله:(لا تقف على ظل المعلم). ونجد الدولة تهتم بالتعليم الثانوى المهنى لأنه عصب الحياة الاقتصادية فهو يمد سوق الإنتاج بالقوى العاملة المدربة حتى أن رسوم الكليات المهنية أرخص من رسوم الجامعات وكافة الخريجين فور تخرجهم يلتحقون بالعمل فى المصانع والشركات. ونرى أيضًا أن الدولة تضع خطة زمنية لتغيير وتطوير المناهج الدراسية، وذلك كل خمس سنوات لمواكبة التقدم العلمى، وتركز على خيار التعليم الإلكترونى ولذلك توزع على كافة الطلاب أجهزة الكمبيوتر مجانا.. ونتيجة لما سبق ارتفعت نسبة التحاق الطلاب الكوريين بالجامعات إلى 80% وهى أعلى المعدلات فى العالم واهتمت أيضًا بالموهوبين فى العلوم والرياضيات، حيث توجد خمسة عشرة مدرسة لهم. *** ** وتزامن تفوق كوريا الجنوبية التعليمى مع التزامها الأخلاقى بالقيم والمبادئ فى المجتمع حتى عرف عن شعبها المعاملة الحسنة والخلق الكريم مع الأجانب.. وهذا التضافر العلمى والأخلاقى سر مواكبتها ومنافستها من النمور الآسيوية والدول الغربية وبذلك تخطت محدودية مواردها واستيرادها للمعادن والطاقة بقيمة 256 مليار دولار واستطاعت إعادة تصنيعها وتصديرها بقيمة 288 مليار دولار.. رغم فقرها فى الثروات الطبيعية لكنها تملك استثمارها الأول الإنسان والمدرسة.