فى أحد المجالس التى كان يعقدها سيف الدولة كل ليلة ويحضرها جمع غفير من العلماء والشعراء، تصادف أن وقع خلاف بين المتنبى وابن خلويه، قام على أثره الأخير بالوثب على المتنبى وضرب وجهه بمفتاح كان بيده فشجه، ولم يتدخل سيف الدولة للدفاع عن صديقه الشاعر أو يطيب خاطره، فخرج المتنبى غاضبا من المجلس واتجه إلى دمشق وأقام فيها حتى وصلته دعوة من حاكم مصر وقتها كافور الإخشيدى فلباها وذهب إلى مصر ومدح كافور بعدة قصائد بعد أن منحه دارا وخلع عليه ملابس وحمل إليه آلافا من الدراهم. وقد تعرض فى أول قصائده فى مدح كافور بصديقه القديم سيف الدولة ووصفه بالغَّدار.. رغم عمق محبته له، حيث بدأ قصيدته بقوله: حببتك قلبى قبل حبك من نأى وقد كان غدارا فكن أنت وافيا فإن دموع العين غدر بربها إذا كن إثر الغادرين جواريا ولكن بالفسطاط بحر أزرته حياتى ونصحى والهوى والقوافيا ثم يصفه يأ أبا المسك الذى كان ينتظر اليوم الذى يلقاه فيه، ولقبه بالأستاذ الكريم الشجاع ولماذا لا تبدل الملوك بياض وجهها بلونه كافور الأسود: كرم فى شجاعة وذكاء فى بهاء وقدرة فى وفاء من لبيض الملوك أن تبدل اللون بلون الأستاذ والسحناء وزاد فى مدحه ووصفه بأبى كل طيب وليس المسك وحده، وأنه شمس منيرة سوداء، وأنه الأكثر تجربة بين الملوك.. ووصل إلى ما وصل إليه وهمته لم تكل، وهو يدير الملك من مصر إلى عدن إلى العراق إلى الروم والنوبة! ثم يقول فى قصيدة أخرى: ومن مثل كافور إذا الخيل أحجمت وكان قليلا من يقول لها أقدمى شديد ثبات الطرف والنقع واصل إلى لهوات الفارس المتلثم فلو لم تكن فى مصر ماسرت نحوها بقلب المشوق المستهام المتيم رضيت بما ترضى لى محبة وقدت إليك النفس قود المسلم ومثلك من كان الوسيط فؤاده فكلمة عنى ولم أتكلم ولم يكتف بذلك.. ولكنه دخل فى الموضوع مباشرة.. حيث خاطبه: وفى النفس حاجات وفيك فطانة سكوتى بيان عندها وخطاب وما أنا الباغى على الحب رشوة ضعيف هوى يبغى عليه ثواب وما شئت إلا أن أدل عواذلى على أن رأيى فى هواك صواب إذا نلت منك الود فالمال هين وكل الذى فوق التراب تراب ولكن مشكلة المتنبىأنه قارن كافور بصديقه سيف الدولة، وشتان بين الاثنين، فلما لم يمنحه كافور ما كان يتوقعه منه.. غادر مصر وهجاه بعدة قصائد مشهور أصبحت مضرب الأمثال منها تلك الأبيات التى يعايره فيها بشقوق فى كعب رجله، وكذلك شفتيه التى شبهها بشفتى البعير: أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا وما أنا عن نفسى ولا عنك راضيا وتعجبنى رجلاك فى النعل إننى رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا ويذكرنى تخييط كعبك شقه ومشيك فى ثوب من الزيت عاريا فإن كنت لا خير أفدت فإننى أفدت بلحظى مشرفيك الملاهيا ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة ليضحك ربات الحداد البواكيا فهو ليس راضيا عنه لتقصيره معه، ولا عن نفسه لقصدها إياه، فهو العبد الذى يؤتى به من بلاد بعيدة لتضحك عليه الثكالى، فقد قيل إن كافور كان عبدا لحجام بمصر فلما باعه اشتراه الإخشيد. يقول أبو الطيب فيه هاجيا: صار الخصى إمام الأبقين بها فالحر مستعبد والعبد معبود العبد ليس لحر صالح بأخ لو أنه فى ثياب الحر مولود لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد ما كنت أحسبنى أحيا إلى زمن يسىء بى فيه عبد وهو محمود ولم يقتصر هجاء المتنبى لكافور حاكم مصر وحده، وإنما طال المصريين جميعا.. بل طال مصر نفسها.. ويصف ذلك بأنه عقاب من الله أن يوَّلى عليهم كلبا مثله.. عبد قزم، وأن المصريين لايعلمون من الدين إلا حلق الشارب.. وهو ما أضحك الأمم منهم: جاز الأولى ملكت كفاك قدرهم فعرفوا بك أن الكلب فوقهم سادات كل أناس من نفوسه وسادة المسلمين الأعبد القزم أغاية الدين أن تحلفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم ثم يختم هجومه هاجيا الجميع: وماذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا بها نبطى من أهل السواد يدرس أنساب أهل الفلا وأسود مشفرة نصفه يقال له أنت بدر الدجى فما كان ذلك مدحا له ولكنه هجو الورى ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه مالا يرى جزاك الله يا أبو الطيب لم تقدر حسن الاستقبال وكرم الضيافة.. وسببت مصر والمصريين.