خلال ثلاثة أعداد ماضية تناولت علاقة الإعلام بقوى الدولة الشاملة، من خلال الدراسة التى أواصل نشر صفحاتها تحت عنوان «الإعلام والأزمة» وتناولت الدراسة نظريات التضليل الإعلامى وكيف تدير الدول الكبرى حربها الجديدة فى منطقة الشرق الأوسط بل العالم أجمع، فى ظل غياب الوعى الإعلامى، وضياع الهوية، وعدم وضوح الهدف القومى، وفى العدد الماضى تناولت من خلال هذه الدراسة كيف استطاعت الولاياتالمتحدةالأمريكية الوصول إلى الكثير من النخب واختراق بعض المؤسسات الإعلامية المؤثرة فى توجيه الرأى العام بالمنطقة، والتأثير الواضح للأموال الأمريكية التى تم الدفع بها سواء من خلال هيئة المعونة الأمريكية أو بعض الهيئات الأخرى، للتأثير على التناول الإعلامى للقضايا، ومنها التأكيد على نموذج الديمقراطية الأمريكية باعتباره أفضل نموذج من وجهة نظر وسائل الإعلام، وكيف يتم تجنيد المثقفين والإعلاميين للانضمام إلى الجيوش الأمريكية المستترة ؟ حتى دون أن تدرى تلك الجيوش أنها تعمل لخدمة السياسة الأمريكية فى المنطقة، واستعرضنا خلال الحلقة الماضية كيف تؤثر السياسة على لجان التحكيم التى تتخذ القرار لمنح جوائز دولية. ونواصل فى هذا العدد استكمال الدور الامريكى فى التأثير على وسائل الإعلام بالمنطقة المرئية والمسموعة والمقروءة، فقد كشفت بعض البرقيات التى نشرتها ويكيليكس عن السفارة الأمريكيةبالقاهرة حجم الأموال التى انفقت من المعونة الأمريكية على الصحافة القومية وكان الهدف الظاهر من هذا الإنفاق هو التطوير، أما الهدف الباطن والحقيقى فهو تشجيع خصخصة تلك المؤسسات، من خلال غرس مفاهيم لدى الأشخاص المتدربين، خلال أعمال التطوير المزعومة، تؤكد على ضرورة التخلص من ملكية الدولة لهذه المؤسسات، وعلى الجانب الآخر يقوم بعض الخبراء الذين يؤمنون بالفكر الأمريكى بالترويج لهذا الهدف، وهو ما جاء فى الفقرة الثالثة من البند الخامس من البرقية (الوثيقة) رقم 061351 الصادرة بتاريخ 6 مارس 2006 والتى حملت تصنيف «سري» وختمت باسم السفير الأمريكى فى ذلك الوقت فرانسيس ريتشاردونى جاء فيها : «أن أمريكا خصصت مبلغ 16 مليون دولار من المعونة لبرنامج خصخصة وبيع الصحافة القومية، أما تمويل الصحف الخاصة فقالت الوثيقة عنه : «أن السفارة الأمريكية قد وجدت طرقا لدعم الصحافة الخاصة»، بدون توضيح ماهية تلك «الطرق» ولا ذلك التمويل لدعم مثل هذه الصحف. ورغم أن هذه الوثيقة كانت تتحدث أساسا عن دور «هيئة المعونة الأمريكية» فى وضع خطة لخصخصة الصحف القومية ببرنامج يبدأ ب 16 مليون دولار لتشجيع خصخصة الصحافة ولكن هذا المجهود توقف حينما رفض الرئيس الأسبق مبارك خصخصة هذه الصحف، وضمن شرحها للخطة المنفذة لتحقيق هذا الغرض قالت برقية السفارة الأمريكية «يتعين علينا أن نضغط على مجلس الوزراء وقادة مجلس الشعب فيما يتعلق بقطاع الإعلام العام « وأضافت : «بينما نجد طرقا لدعم الإعلام الخاص». وأكد هذا التوجه برقية أخرى برقم 073001 صادرة بتاريخ 10 سبتمبر 2007 حملت تصنيف «سرى» وختمت باسم السفير ريتشاردونى أيضا وجاء فيها فى الفقرة 10 تحت بند «الصحافة المستقلة» :إن من أهداف الاستراتيجية الأمريكية فى مصر:«الدفع باتجاه إصلاحات سياسات تؤدى إلى خصخصة قطاع الصحافة المكتوبة وقطاع البث الإذاعى والتليفزيونى». وهذا يدلل على استمرار الولاياتالمتحدة فى نهجها نحو التخلص من وسائل الاعلام الحكومية حتى تستطيع السيطرة على سياستها الإعلامية سواء من خلال أصحاب رءوس الأموال الذين سوف يتم الدفع بهم لشراء تلك المؤسسات، أو من خلال تقديم الدعم المالى لتلك المؤسسات تحت ستار المواد الإعلانية. خصخصة الإعلام برقية أخرى متعلقة بموضوع بيع الإعلام المصرى سربها موقع ويكيليكس ونشرتها وكالة أنباء أمريكا إن أرابيك، حملت رقم 065867 وصادرة من السفارة بالقاهرة تحت تصنيف «سري» بتاريخ 19 سبتمبر 2006 كشفت أن السفارة الأمريكية اعتبرت تغيير الإعلام فى مصر «أولوية قصوى» . نقلت البرقية نفسها أن لقاء غير معلن تم بين ناشر سابق لجريدة ليبرالية يومية خاصة شهيرة ذكرت اسمه مع المسئولة الأمريكية (ايريكا باركس رجلس) بقسم حقوق الإنسان والديمقراطية بالخارجية الأمريكية وحضر الاجتماع (سكوت كاربنتر) نائب مساعد وزير الخارجية، وأن هذا الناشر قال لهم أن «المعركة الحقيقية ليست حرية الصحافة ولكن هى الدعم الهائل الذى تقدمه الحكومة المصرية للصحافة القومية». ورغم أن البعض حاول التشكيك فيما نشرتها ويكليكس من برقيات ووثائق خاصة بالخارجية الامريكية، والسفارة الأمريكيةبالقاهرة، إلا أننا لم نجد رد فعل حقيقى من جانب المسئولين المصريين عندما نشرت لك الوثائق فى 2010 و2011 بل إن السفيرة الأمريكية السابقة اكدت فى أكثر من تصريح صحفى لها، فى أكثر من مناسبة على أن الولاياتالمتحدة، قدمت أكثر من 146 مليون دولار دعما لبعض وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى، ولم نجد ردا قاطعا ينفى تلك التصريحات سواء من جانب الحكومة أو المؤسسات الإعلامية. إن برنامج دمج المؤسسات الصحفية القومية كان أحد أدوات السعى لخصخصة وسائل الإعلام المصرية، فمن الملاحظ أن المؤسسات التى تم دمجها كانت قد حصلت قبل عملية الدمج على جزء من المعونة الأمريكية لتطوير تلك المؤسسات بعدها تم صدور قرار بدمجها إلى المؤسسات الكبرى وهو ما يؤكد أن تلك الأموال التى انفقت من جانب المعونة الأمريكية لم تساهم فى تطوير تلك المؤسسات الصحفية. إلا أن هذا التمويل الأجنبى لصحف ولفضائيات بعينها لم تكشفه فقط وثائق ويكليكس، ولكن كشفته أيضا اللجان القضائية المشكَّلة من وزارة العدل بالمستندات والأدلة . أخد المجهود الإعلامى الأمريكى الموجه نحو الجماهير العربية بالتطور والتبلور بصورة لافتة للانتباه، وبصورة تتماشى مع تصاعد المجهود الحربى الأمريكى فى المنطقة. وقد تم ذلك مع عناية أكبر بمخاطبة الفئات والشرائح بصورة أكثر تحديداً وانتقاء. تجلى ذلك فى حالة إذاعة «سوا» الموجهة للشباب العربي، وهى تجربة إذاعية تقوم على خلط منوعات غنائية وموسيقية غربية بأخرى عربية، مع حشوها بصورة متقنة؛ بالرواية الأمريكية لأحداث المنطقة والعالم، المتمثلة فى نشرة إخبارية رشيقة مقتبسة من إذاعة «صوت أمريكا» بالعربية . الوكلاء على التوازى من ذلك، دأبت وسائل إعلام أمريكية بارزة بالتعاقد مع وكلاء فى المنطقة على استصدار نسخ عربية منها، بشكل مثير للشفقة أحياناً. فعلى صعيد الإعلام المطبوع؛ يمكن الإشارة إلى نموذج مجلة «نيوزويك» العربية التى تصدر من الكويت عن «دار الوطن» كل ثلاثاء. تعيد حالة «نيوزويك» هذه إلى الذاكرة تجربة مجلة «المختار للقراءة» التى نقلت إلى العربية، كما إلى العديد من اللغات الأخرى؛ عن النسخة الأم الأمريكية، ذات التوجه الليبرالي. لكنّ «نيوزويك» المسيّسة بطبعتها كان عليها أن تُدخل من يقومون بإصدارها للقراء العرب فى مواقف لا يُحسدون عليها، مثل الأزمة التى تسببت فيها قبل أكثر من سنة عندما نشرت تقريراً لصحافى يهودى يسيء إلى أحد جدران المسجد الأقصى المبارك بوصفه «الجدار الملعون» ويؤكد ادعاءات الاحتلال ومجموعاته الشوفينية فى المسجد الأقصى بصورة فاضحة، وهو انتهاك يمثل فى جوهره مخالفة لتنظيم المطبوعات الكويتي، لكن العدد خرج إلى الأسواق بلا مشكلات، كما خرج غيره مما يحمل مساساً بالشعائر الإسلامية. حالة «نيوزويك» العربية، التى بقيت مجلة مغمورة وطبعت منها نسخة بالقاهرة لم يكترث بها القراء العرب؛ بوسعها أن تُفهم المراقبين أسباب إخفاق التجارب الشبيهة القائمة على تعريب المضامين الإعلامية الأمريكية بما يشبه الترجمة الحرفية. ومن الواضح أنّ تجارب «سى إن إن العربية»، و«سى إن بى سى عربية» ليست ببعيدة على هذا المشهد . وبحسب مقال نشر للدكتور على العامرى فى جريدة الوفد فى 13 فبراير 2012 أكد أن هناك بعض المؤسسات الإعلامية التى ذكرت التقارير الأمريكية تلقيها التمويل الأمريكى مثل : قناة 25 يناير، قناة سات 7 القبطية، والعديد من الصحف والمواقع الإلكترونية وصحفيين. وهناك العديد من المنظمات والشخصيات والمؤسسات منهم من انكشف ومنهم ما زال لم يكشف بعد وما تأكد حتى الآن من عدد المنظمات التى بالفعل تتلقى تمويلا أمريكيا يصل الى 215 منظمة وهناك حسب التقرير الأمريكى ما عدده 600 منظمة تحت الطلب لتلقى تمويل أمريكى وهذا أمر مخيف جداً. تدريب الكوادر وفى عام 2003م كشفت غرفة التجارة الأمريكية عن قيامها بتدريب أكثر من 500 شخصية سياسية وإعلامية واقتصادية مصرية بعددٍ من الدورات التى نظمتها فى العين السخنة بالتعاون مع مركز إعداد القادة الذين أصبحوا فيما بعد رؤساء تحرير لصحف قومية ومستقلة، هذه الدورات تزامنت مع برنامج تطوير الديمقراطية الذى أعلنت عنه ليز تشينى نجلة نائب الرئيس الأمريكى السابق ديك تشيني، وهو البرنامج الذى وضعت له الولاياتالمتحدة ما يقرب من نصف مليار دولار بعد احتلالها للعراق لعدة أهداف، منها محاولة تجميل صورتها أمام الرأى العام العربي، وكان من نتائج ذلك راديو «سوا» وقناة «الحرة». إن تاريخ التعامل بين وسائل الاعلام والمخابرات الأمريكية طويل جدًّا، منذ بدايات عهد الرئيس الأسبق مبارك، ولم يقتصر على المؤسسات الصحفية الخاصة. إن جزءًا من التعاون بين النظام الأسبق والحكومة الأمريكية فى مجال الإعلام من خلال تخصيص جزء من المعونة الأمريكية لدعم الإعلام، هذا الدعم هو الذى ساعد على تحويل الصحافة المصرية من الطباعة البارزة إلى نظام الأوفست فى أواسط الثمانينيات بعد تولى الرئيس مبارك ب4 سنوات. كما حصلت المؤسسات القومية على جزء من المعونة الأمريكية عندما أسست مبانيها الجديدة فى مدينة السادس من أكتوبر، إبَّان حرب الخليج الثالثة واحتلال العراق، وبحسب الدكتور شريف اللبان أستاذ الصحافة وتكنولوجيا الاتصال ومدير مركز جامعة القاهرة للطباعة والنشر فى مقال له نشر على موقع اخوان الدقهلية فى 12 مايو 2012 ولم يصدر اى تعقيب على ما نشر حيث أكد أن صحيفة «الأهرام» المصرية مهَّدت لهذه الحرب من خلال إرسال وفد من الجريدة لإجراء بعض الحوارات مع أشخاص فى الإدارة الأمريكية. واستطرد اللبان قائلا : «السفير الأمريكى كان يقوم بزيارات للمؤسسات الصحفية المصرية، لتوجيه تعليماته بشأن التغطية الصحفية للأحداث فى وقت الحرب»، منتقدًا هذا التدخل السافر فى شئون دولة مستقلة. ويلفت إلى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لا تدعم أى مؤسسة صحفية إلا من أجل تنفيذ أجندتها الخاصة، التى تخدم المصالح الصهيوأمريكية فى المنطقة، مستنكرًا تعامل بعض الصحف الخاصة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتنفيذ أهدافها السياسية فى المنطقة، مشيرًا إلى أن هذا يتنافى مع حرية الدولة، فمن لا يملك إعلامه لا يملك حريته، فالحرية لا بد أن تنطلق من السيادة الإعلامية الخاصة بالمجتمع المصري. وطالب الدكتور اللبان فى ذلك الوقت بأن تكون هناك منظومة أخلاقية حاكمة للصحف المصرية، بحيث تمنع أى تعامل مع جهات أجنبية، مشددًا على وجوب إغلاق أى صحيفة يثبت تعاملها مع جهات أجنبية؛ لأن ذلك يعد خيانة للشعب المصري. وحسبما نشر عن الدكتور أحمد دراج عضو الجمعية الوطنية للتغيير فى 11 مايو 2011 أن الأمريكيين يدعمون أى شخص أو مؤسسة تحقق لهم مصالحهم، منتقدًا ما تقوم به بعض المؤسسات الصحفية المصرية أو غيرها من المؤسسات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدنى من تعامل الأمريكيين أعداء الوطن، موضحًا أن المخابرات الأمريكية لا تقل سوءًا عن الموساد . واكد أن أهداف المخابرات الأمريكية نشر بعض من وصفهم ب «الكُتَّاب المارينز» فى بعض المؤسسات الصحفية؛ لتنفيذ مخططات وأهداف جهاز الاستخبارات الأمريكية، موضحًا أن هذه الصحف تحصل على دعم غير مباشر من المخابرات الأمريكية على هيئة إعلانات من الشركات الدولية الكبرى.