تناولنا في المقال السابق بعنوان استقلال القضاء بين الواقع والمأمول والمنشور بمجلة أكتوبر بتاريخ 23/6/2013 مفهوم استقلال القضاء بين الواقع الفعلي والمأمول منه مستقبلا، وقد أوضحنا في ذلك المقال أن استقلال القضاء قضية قومية عامة لا تخص القضاة وحدهم وأن اعتزاز الشعب المصري بهذه المؤسسة يتطلب إجراء البحوث العميقة اللازمة لتأكيد استقلال القضاء، وقد فرضت ذلك ثورة 25 يناير المجيدة التى استوجبت إجراء تعديلات جوهرية لإصلاح سلطات الدولة الثلاث، ومنها السلطة القضائية. كما أوضحنا مفهوم استقلال القضاء في العالم وتفوق القضاء المصري على الكثير من الدول المتقدمة في نزاهته واستقلاله وحيدته، وذلك من خلال دراساتنا المتعددة والمتخصصة في هذا الشأن، وقد تأكد ذلك من خلال الاستقلال الداخلي الذاتي في شخصية القاضي المصري والاستقلال الخارجي للقاضي عن التأثيرات المختلفة – الشخصية وغير الشخصية - التي قد تقع من النظام القانوني للدولة. وسوف نتناول فيما يلي المركز القانوني والدستوري للهيئات القضائية في الدستور المصري الجديد لسنة 2012 وذلك فيما يلي : أولاً: الأساس الواقعي لقيام دولة القانون هو قيام قضاء مستقل : تقوم دولة القانون في الواقع العملي على التطبيق الصحيح للدستور والقانون ولن يكون تطبيق القانون صحيحا إذا لم يقم على تطبيقه ويسهر على حمايته قضاء مستقل ومحايد ونزيه وذلك لأنه تتأكد به السيادة الفعلية للقانون ويعلو به صرح المشروعية ويرجع ذلك إلى أن احترام الحريات والحقوق العامة وحمايتها يُعد الوسيلة الفعّالة لضمان تجاوب الأفراد مع المجتمع، فليس من المتصور حدوث هذا التجاوب وفاعليته إلا من إنسان حر يثق في ذاته وكيانه ومن ثم كان احترام الحريات والحقوق العامة وحمايتها مطلبا اجتماعيا ليس من أجل وجود المجتمع ذاته فحسب بل ولضمان ضبط حركته استهدافا لاستقراره وتقدمه ورفعته فكان القضاء المحايد المستقل ركن في قانونية النظام وذلك لأنه لا قانون بغير قاض وأن استقلال القضاء وحصانته ضمانتان أساسيتان لحماية الحقوق والحريات ولا قيمة لهذه وتلك دون قضاء مستقل يعطي للعدالة معانيها ويصل بها إلا غاياتها المثلى. ثانيا: تأكيد الدستور المصري الجديد لسنة 2012 على استقلال السلطة القضائية: تضمن الدستور المصري الجديد لسنة 2012 في بابه الثالث تحديد السلطات العامة فتحدث في الفصل الأول عن السلطة التشريعية التي تشتمل على مجلس النواب ومجلس الشورى كما تضمن الفصل الثاني السلطة التنفيذية المتمثلة في رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء أما الفصل الثالث من الباب الثالث المذكور فقد تناول تحديد المركز القانوني للسلطة القضائية والأحكام العامة للسلطة القضائية حيث تناولت المادة 168 استقلال السُلطة القضائية وتضمنت أن السُلطة القضائية مُستقلة، تتولاها على اختلاف أنواعها ودرجاتها ، وتُصدر أحكامها وفقًا للقانون. ويبين القانون صلاحياتها. والتدخل فى شئون العدالة أو القضايا جريمة لا تَسقُط بالتقادم. ثالثاً : التطور الدستوري لاستقلال القضاء المصري قبل دستور 2012 : يقابل المادة 168 من الدستور المصري الجديد المادة 46 من الإعلان الدستوري الصادر من المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 30/3/2011 وقد كانت المادة 46 من الإعلان الدستوري المذكور تتضمن أن السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفق القانون. وتقابل المادة 168 من الدستور الجديد المادة 165 من دستور 1971 الملغي . وقد كانت المادة 165 الملغاة تتضمن أن السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم علي اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفق القانون. وقد كانت نسبة التصويت من الجمعية التأسيسية لوضع الدستور على المادة 168 هي الإجماع الكامل من أعضاء الجمعية التأسيسية . رابعاًً: التقدير الموضوعي للمادة 168 من الدستور المتعلقة باستقلال القضاء : تتميز المادة 168 من الدستور الجديد بأنها قد أرست مبدأ استقلال السلطة القضائية التي تتولاها المحاكم بكل أنواعها ودرجاتها، كما تتميز هذه المادة بأنها منعت التدخل في شئون العدالة وأن ذلك جريمة لا تَسقُط بالتقادم. ونحن نرى أنه يعيب هذه المادة أنها قد أحالت إلى قانون يحدد صلاحية السلطة القضائية وهو أمر قد تستغله السلطة التشريعية في المساس بالسلطة القضائية والتغول عليها والتدخل في شئونها وكان يجب ألا تُحيل المادة 168 من الدستور إلى أية قوانين أخرى وأن يتم تنظيم الأمر تفصيلا في الدستور أو يتم نقل المادة الخاصة بالسلطة القضائية المقابلة لهذه المادة من دستور1971 وهي المادة رقم 165 كما هي بأن تتولى المحاكم السلطة القضائية على اختلاف أنواعها ودرجاتها. وبالإضافة إلى ما تقدم فإنه يعيب هذه المادة أنها لم تقدم ضمانة لأعضاء السلطة القضائية والمحاكم بكل أنواعها ودرجاتها لضمان استقلالها، وألا يُترك تنظيم ذلك للقانون، حتى لا يتم استخدام القانون في التعدي علي استقلالها. وقد لاحظنا أن الجمعية التأسيسية لوضع الدستور لم تأخذ برؤيتنا الخاصة التي طالبنا بها في كتابنا : « موسوعة شرح الدساتير المصرية والمستويات الدستورية الدولية» وهي أنه يجب على الجمعية التأسيسية لوضع الدستور المصري الجديد أن تحافظ على الصالح من النصوص الدستورية المصرية السابقة وأن تضيف إليها الجديد الذي توجبه ضرورات الثورة ومقتضيات العدالة الانتقالية ورؤيتنا المذكورة تتفق مع قواعد القانون الدستوري الدولي والمقارن حيث قامت الجمعية التأسيسية بوضع نص جديد يخالف في صياغته نص المادة 165 من دستور 1971 دون مبرر رغم صحة وسلامة نص المادة 165 في دستور 1971 وموافقتها لقواعد القانون الدستوري الدولي والمقارن وذلك لأن العبرة بالمعنى الوارد في الدستور وليس أنه سابق على قيام ثورة 25 يناير المجيدة . ولا يوجد للمادة 168 من الدستور الجديد مقابل في الدساتير المصرية السابقة على دستور 1971، وترتبط هذه المادة بمواد السلطة القضائية من المادة 169 حتى المادة 182 من الدستور . خامسا: مدى وجود استقلال القضاء فى دساتير الدول الأجنبية والعربية: خلت بعض الدساتير العالمية من النص على استقلال السلطة القضائية ومع ذلك فقد تضمن الدستور الفرنسي النص على استقلال القضاء في المادة 64 من الدستور الفرنسي الحالي الصادر سنة 1958 المعدل. وقد حزت الدساتير العربية حزو الدستور المصري والفرنسي حيث تضمن دستور جمهورية العراق استقلال القضاء في المواد من 87 إلى 96 ، كما تضمن دستور دولة الكويت هذا الاستقلال في المادة 162، كما تضمن دستور دولة الإمارات استقلال القضاء في المادة 166، كما تناول دستور مملكة البحرين الاستقلال المذكور في المادة 104، كما تضمن دستور دولة قطر في المادة 130 استقلال القضاء ، كما تناول دستور سلطنة عمان استقلال القضاء في المادة 60 منه وقد تناولنا شرح ذلك تفصيلاً فى كتابنا: « موسوعة شرح الدستور المصري الجديد لسنة 2012 دراسة مقارنة». وسوف نتناول في مقالات تالية استكمال شرح المركز القانوني للهيئات القضائية في الدستور المصري الجديد لسنة 2012.