أى مواطن مخلص الآن يتمنى أن يركب الرئيس محمد مرسى قطار عبد الناصر ومهاتير محمد وأن يخرج من عنق الزجاجة التى نعانى منها منذ ثلاثين عاما، خاصة أن الرئيس مرسى جاء بعد ثورة شعبية جارفة نادت بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وأنه قال على الملأ مؤخرا سنسير على خطى عبد الناصر وتجارب مهاتير محمد. السطور التالية إضاءة عما فعله الزعيمان لنهضة مصر وماليزيا.. ناصر.. أقام العدالة الاجتماعية فى 45 يومًا الشعبية التى حصل عليها الزعيم جمال عبد الناصر ربما لم يحصل عليها زعيم مصرى من قبل، وربما لم يحصل عليها زعيم من بعده أيضا، ليس بسبب الثورة أو أنه من الضباط الأحرار أو أنه من بنى مر فى الصعيد الجوانى، أو أن له حاشية كانت تقول له: «ثوار أحرار بنأيد أى قرار»، كل هذه الأسباب لم يكن لها أثر يذكر فى شعبية عبد الناصر ولكن بسبب قانون الإصلاح الزراعى والذى صدر بعد 45 يوما تقريبا من قيام ثورة يوليو، حيث نجح هذا القانون فى تحقيق العدالة الاجتماعية بين أبناء الشعب، بالقضاء على الإقطاع وأعوانه، وتحديد الملكية وتوزيع الأراضى على الفلاحين المعدمين ليصبحوا مُلاّكا بعد أن كانوا يخدمون فى أملاك الإقطاعيين. ولتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية الذى آمن به عبد الناصر، وضع نصب عينيه قوله تعالى: «لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا.. أعدلوا هو أقرب للتقوى»، والشاهد أنه عندما أصدر قانون الإصلاح الزراعى بالإتفاق مع الرئيس محمد نجيب، لم يظلم الملاك القدامى، ولم يتركهم لغوائل الزمن، وقال لبعض الضباط الأحرار الذين أرادوا تجريدهم من كل شىء: «ارحموا عزيز قوم ذل». ففى الوقت الذى منح فيه كل فلاح معدم من 2 فدان إلى 5 أفدنة منح الملاك القدامى من50 فدانا إلى 200 فدان وطلب منهم الاستثمار وبناء المصانع وتشغيل العمالة لصالح مصر. ولإقامة نهضة حقيقية بدأ جمال عبدالناصر بالفلاح الفصيح، لأنه «وش الخير» من وجهة نظره، فبعد تمليكه الأرض أصدر قرارا نافذا بإنشاء جمعية زراعية فى كل قرية مهمتها خدمة الفلاح فى تحديد الدورة الزراعية، وتحديد المحاصيل، وتقديم البذور والتقاوى والمبيدات والأسمدة، وتشجيع زراعة القطن والقمح، وتوزيع علف الحيوان «الكُسْب» على المزارعين وإنشاء وحدات بيطرية فى كل قرية لخدمة الثروة الحيوانية، والتى لم يعد لها أثر إلا النذر القليل فى بعض القرى مما جعل بعض الفلاحين فى قرى الصعيد والوادى يعيشون على ذكراه. أما المثقفون فإنهم يعيشون على ذكراه أيضا عندما يعلمون أن كريمته منى عبدالناصر تدخل الجامعة الأمريكية ليس لأنها متفوقة ولكن لأنها لم تحصل على مجموع يؤهلها للالتحاق بالجامعات المصرية مما يكشف مستوى التعليم أيام عبدالناصر وأيامنا تلك. ولأن عبد الناصر كان يدرك منذ وقت مبكر أن التمكين والجلوس على كرسى الحكم يأتى بالبناء والتعمير، وليس بسن التشريعات وسلق القوانين فقد أنشأ بالاتفاق مع الرئيس محمد نجيب المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى وكان ذلك فى 8 سبتمبر وهو ذات اليوم الذى صدر فيه قانون الإصلاح الزراعى، وكان بعد 45 يوما من قيام الثورة أيضا. وبموجب هذا المجلس الذى ضم أساطين الاقتصاد فى مصر قبل الثورة تم وضع خطة استثمارات عامة يتم تنفيذها على أربع سنوات، ويتم التركيز فيها على المشروعات ذات الأهمية الاقتصادية الكبيرة، والتى دفعت الرئيس مرسى أن يقول مؤخرا إنه سيسير على نهج الرئيس عبد الناصر أثناء زيارته لمصنع الحديد والصلب فى حلوان. وبخلاف مصنع الحديد والصلب تم إنشاء شركة كيما للأسمدة لتزويد الفلاح بما يحتاج إليه من أسمدة أزوتية، ومصانع إطارات السيارات الكاوتشوك، ومصانع عربات السكك الحديدية «سيماف» ومصانع الكابلات الكهربائية وبناء المناجم فى أسوان والواحات البحرية، وتم إنشاء مجمع الألومنيوم، وزادت الرقعة الزراعية من 2 مليون فدان إلى 4 ملايين، وبناء على تقارير البنك الدولى فإن اقتصاد مصر فى زمن عبدالناصر كان أقوى من اقتصاديات الصين والهند وكوريا الجنوبية كما كان الدولار الأمريكى ب 25 قرشا والريال السعودى ب 7 قروش والجنيه الذهب ب 4 جنيهات مصرية. كما أشارت التقارير أنه عندما توفى عبدالناصر كان فائض مصر من العملة الصعبة 250 مليون دولار بعد عجز وصل إلى 39 مليون دولار فى بداية حكمه، وأنه بنى أكثر من 1200 مصنعا استراتيجى كبير و10 آلاف منشأة متوسطة وصغيرة وصلت تكاليفها كما قالت تقارير البنك الدولى أيضا إلى 1400 مليار دولار.لأن التاريخ لا يكذب ولا يتجمل فقد رفض عبد الناصر شروط صندوق النقد الدولى عند تمويل بناء السد العالى، وقرر أن يصارح الشعب، وقال صراحة إن قوى الاستعمار ترفض تمويل السد عندها انتفض الشعب خلفه وقال لن يبنى السد إلا المصريون، وبالفعل كما قال عبد الحليم حافظ «قلنا هنبنى وادينا بنينا السد العالى، وبعد 10 سنوات بالتمام والكمال تم بناء السد العالى والذى يعد بناء على تقرير الأممالمتحدة لعام 2000 أعظم مشروع هندسى تنموى فى القرن العشرين، ويعادل بناء 17 هرما على غرار هرم خوفو. السد العالى كان ومايزال فخر المصريين حيث تم مد خطوط الكهرباء من أسوان إلى الإسكندرية ودخلت الكهرباء الريف المصرى بعد أن كانت مقصورة على الباشوات والسوبر باشوات على حد تعبير الروائى الكبير إحسان عبد القدوس. ولأن ناصر لم يكن بوجهين، ولم يكن منافقا أى إنه مع شعبه بوجه، ومع القوى العظمى بوجه آخر، ولأنه أيضا كان صاحب إرادة وطنية مستقلة فقد أعلن عبدالناصر فى 26 يوليو 1956 أن قناة السويس شركة مساهمة مصرية، ولا وجود فيها لأى مستثمر أجنبى أو خبرة أجنبية، وأن خير الأجداد لابد أن يعدد للأبناء. ولأنه قوى الاستعمار كانت تتربص بعبدالناصر فقد قامت بالعدوان الثلاثى عام 56 لكسر شوكة عبد الناصر والجيش المصرى المنطلق، وفى المقابل رفضت بريطانيا وكانت مدينة لمصر ب 80 مليون جنيه استرلينى رد هذا الدين انتقاما من عبد الناصر. لم يعاد عبد الناصر أى دولة عربية ولم يأخذ موقفا من أحد، بل مد يديه لكل الدول فأقام الوحدة مع العراق عام 58 أيام المشير عبد السلام عارف وأنشأ الجمهورية العربية المتحدة بالوحدة مع سوريا. وقرر عبد الناصر أن يكون حليفا للشعب المصرى أولا والأمة العربية ثانيا، فقام بتشجيع الصناعة الوطنية، وكان يفتخر أنه يلبس بدل المحلة، وفى بيته ثلاجة إيديال من المصانع الحربية، وكانت السيارة الكاديلاك التى تحرك بها ليلة الثورة هى ذات السيارة التى ظلت معه ثمانية عشر عاما طيلة فترة حكمه، ولم يمشى فى موكب أو حرس جمهورى، حيث اعتبر كل فئات الشعب وليس فئة معينة هى الضمانة الحقيقية لحمايته بعد الله سبحانه وتعالى. ومن هنا ظل عبد الناصر وسيظل خالد الذكر لأنه كان ينتمى للشعب وليس لأى شىء آخر. مهاتير محمد.. الطبيب الذى قضى على الفقر والجهل والبطالة تمرد على التنظيم فحكم ماليزيا 22 عاما رفض رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد أن يعيش - كما تقول سيرته الأولى - فى تنظيم اتحاد الملايو الوطنى والجماعة القومية الحاكمة، وقرر أن يقود ماليزيا إلى الأمام وعدم النظر للوراء أو التفرغ لتصفية الحسابات أو تغذية الصراعات وشيوع مصطلحات التخوين والتمكين. قرر مهاتير العمل لمصلحة شعبه، وتحقيق العدالة الاجتماعية الغائبة، فالتف حوله الشعب بقضه وقضيضه فى ظاهرة لم تحدث مع أى حاكم فى التاريخ المعاصر إلا مع الرئيس عبد الناصر. وخلال 22 عاما - هى فترة حكمه الذى تركه طواعية - لم يأت بعده وضع ماليزيا فى مصاف الدول الصناعية الكبرى، وتجاوز لأول مرة دخل المواطن الماليزى - وهو مواطن مسلم فى دولة مسلمة - إجمالى ما يتقاضاه المواطن اليابانى والأوربى والأمريكى. ولم ينجح مهاتير محمد بتلك الطفرة الاقتصادية الكبرى بالشعارات أو المظاهرات أو الوعود الجميلة والخطب الرنانة، ولكن بإرادة سياسية واعية وخطة اقتصادية محكمة دفعت المواطن «الكوالالمبورى» - وهى عاصمة ماليزيا القديمة - أن يتيه بنفسه بعد أن كان يُستهزأ به لأنه من كوالالمبور. وعن هذا يقول رئيس وزراء ماليزيا: إن بلادى فيها أكثر من سبع عرقيات فيها المسلمون وهم أكثر من نصف السكان، والهنود والصينيون والبوذيون والهندوس.. اجتمعت بممثلى هذه العرقيات مجتمعين قلت لهم عندما توليت رئاسة الوزراء عام 82 لابد من بناء ماليزيا لابد أن نلحق بقطار اليابان وسنغافورة ثم أوربا وأمريكا وبقية العالم المتقدم استمعت إلى كل واحد فيهم، نحينا الخلافات جانباً، طلبت من كل واحد منهم أن يأتى بأكفأ ما عنده.. وقد كان وشكلت مجلسا للحكماء يضم كل ألوان الطيف السياسى.. اتفقنا معا على تحقيق العدالة الاجتماعية وبناء البنية التحتية، وبناء الفرد العامل وجذب الاستثمار والاستفادة من ثورة اليابان الصناعية وتقاسم الثروة والسلطة. قررنا مجتمعين - كما يقول مهاتير - أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، فنحن لن نعيد اختراع العجلة، والشعب لن يصبر على الجوع وبدأنا النهضة بالاستقرار السياسى، وإرساء دعم الديمقراطية، فالديمقراطية هى التى تضع الحكومات وهى التى تكسرها أيضا إذا حادت عن الطريق الصواب.. وضعنا أيدينا فى يد الجميع فكيان واحد لا يستطيع بمفرده بناء وطن فتعاون القطاع العام مع الخاص والتركيز فى البداية على الزراعة، واستصلاح الأراضى وتوزيعها على الفلاحين وصغار المستثمرين وإعفاء الشركات الصناعية من الضرائب مقابل توفير فرص عمل للعاطلين حتى لا يجد وقتا للتظاهر أو البحث عن عمل غير شريف. وبعد استقرار الأوضاع خصصا 25% من الدخل القومى للتعليم فتم إيفاد 300 طالب ماليزى لجامعات اليابان شهريا ثم 300 آخرين سنويا لجامعات أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.. وامتلكنا خلال 5 سنوات فقط طاقات شبابية جبارة قادرة على فعل المستحيل، وقد كان، حيث تحولت ماليزيا فى السنوات الخمس الأولى من بلد زراعى وصناعى لا يعرف إلا تصنيع زيت النخيل والتصدير إلى بلد صناعى كبير تخصص فى تصنيع الشرائح الإلكترونية وبدأ المنتج الماليزى فى غزو دول العالم الكبرى والصغرى على السواء. قالها فى لقائه الأخير بأعضاء حزب الحرية والعدالة بحضور د. سعد الكتاتنى والمهندس خيرت الشاطر نائب المرشد.. قالها صراحة وبلا مواربة لا تعتمدوا على سياسات صندوق النقد الدولى وأن نصائح البنك محل شبهة وأنها ليست صحيحة على طول الخط، وأن من يمد يده يكون مكسورا وذليلا قال مهاتير رفضت نصائح الصندوق، طلب منى تعويم عملة بلادى «الريبخيت» رفضت بشدة هذه النصائح، واتخذت قرارات صارمة، فرضت قيودا على التحويلات النقدية الخاصة بحسابات المستثمرين ورجال الأعمال، وفرض أسعار صرف محددة لبعض العملات.. صارحت الشعب بكل شىء، أشركته معى قلت له إننا فى ورطة، فى أزمة اقتصادية حادة.. لم يتخل شعبى عنى وقف بجانبى، أدرك أننى أعمل لمصلحته حتى خرجت ماليزيا من أزمتها، ونجحت ماليزيا فى إدارة الأزمة بينما تعثرت الدول الأخرى التى نفذت تعليمات صندوق النقد الدولى ردحا من الزمن. أضاف رئيس وزراء ماليزيا: أدركت مبكرا أن التصنيع هو سر نهضة أى دولة فأنشأت 15 ألف مشروع صناعى برأسمال 220 مليار دولار، ونجحت6 فى جذب استثمارات أجنبية بلغت 54% من الناتج المحلى، وفرت فى 5 سنوات فقط 2 مليون وظيفة وركزت على مشروعات الاتصالات والمعلومات أو الاقتصاد المعرف وتخصيص ميزانية خاصة للبحث العلمى للإنفاق على الأبحاث المتعلقة بالتكنولوجيا والصناعات الثقيلة.. ومن هنا تحققت النهضة فى ماليزيا بالاستعانة بالكفاءات وليس الصراعات وتصفية الحسابات.