كانت التطبيقات الجائرة لقانون اجتثاث البعث فى العراق سببًا مباشرًا يمكن من خلاله تفسير كثير من المشاهد على الساحة السياسية فى العراق، إقصاء وتهميش واضطهاد جماعات بعينها من الشعب ولّدت الانفجار الحالى. ورغم فداحة الخسائر العراقية من جراء قانون الاجتثاث، فقد وقعت ليبيا مجبرة فى فخ قانون العزل السياسى الذى سيؤدى لدمار ليبيا كما حدث فى العراق. وإذا كانوا اتبعوا منهج «الاجتثاث» فى العراق، فإنهم لم يقيموا التجربة ومدى توافقها مع الديمقراطية. فلم تؤد تجربة الاجتثاث فى العراق سوى إلى تعزيز منهج المحاصصة الطائفية بشكله الأسوأ. وقد أنشئت الهيئة الوطنية لاجتثاث حزب البعث الحاكم للعراق فى زمن الراحل صدام حسين، وذلك لاجتثاث فكرة وتصفية دوائر الدولة من أعضائها، وهى هيئة دستورية تم التصديق عليها فى دستور 2005. وكان قانون الاجتثاث وتطبيقه الجائر سببًا فى خلق بيئة الإرهاب، وشعرت جماعات بعينها أنها مستهدفة من أجل تهميشها وعزلها عن الحياة السياسية وتجريدها من كافة حقوقها الوطنية، وكان رد الفعل أن ساهمت فى تشكيل ميليشيات أو قدمت لهم خدمات لوجيستية أو أغمضت عنيها عما يدور من عنف، فدمر العنف العراق. وننتقل من بلاد الرافدين إلى ليبيا، فعقب شهور من التوتر وانتهاك حرمة وهيبة مؤسسات الدولة بداية من المؤتمر الوطنى العام والوزارات السيادية على ايدى ميليشيات مسلحة تصر على اجتثاث «الأزلام» الذين عملوا على مدى 42 عامًا فى نظام القذافى. وسيؤدى هذا القانون إلى عزل رئيس المؤتمر الوطنى العام محمد المقريف ونائبه الأول جمعة عتيقة ونحو 23 من أعضاء المؤتمر، وعزل رئيس الحكومة المؤقتة على زيدان وستة من الوزراء وعزل معظم السفراء والقناصل فى الخارج. وقدر محمود جبريل رئيس وزراء ليبيا السابق عدد المسئولين المستهدفين بقانون العزل بأكثر من 500 ألف شخص، معتبرًا أن القانون سيتسبب فى تفريغ الدولة من كوادرها. وأكد أن قانون العزل جاء لتصفية حسابات سياسية وسيخلق حساسيات بين الليبيين، لذلك فإن مستقبل ليبيا غامض، وقد يتجه من شملهم العزل إلى إنشاء ميليشياتهم لتدمر ليبيا كما حدث فى العراق. لم تكن فكرة العزل السياسى مقتصرة على العراق وليبيا لكن فى هذين البلدين أخذ العزل منحى متطرفًا إلى حد بعيد. ففى تونس ظهر منذ اليوم الأول بعد رحيل بن على منهج العزل السياسى فى إطار الديمقراطية الجديدة، فبدأ المجتمع الذى كان يماثل المجتمعات الأوروبية فى مدنيته يتجه نحو العسكرة.. وواجهت تحركات حركة النهضة للسيطرة على مفاصل الدولة، معارضة سلفية قوية، وصلت إلى صدامات عنيفة بين الطرفين، وحدثت مواجهات بين قوات الأمن وآلاف الناشطين السلفيين الذين تحدوا قرارًا حكوميًا بمنع انعقاد ملتقاهم الثالث فى مدينة القيروان. أما فى مصر، فقد منع العزل السياسى رموزًا من الترشح للانتخابات الرئاسية، ومنع بعض رموز النظام السابق من الترشح للانتخابات البرلمانية القادمة. إن مشكلة البلدان العربية التى سقط رؤساؤها هى عدم القدرة على الرؤية الشاملة بعد الثورات، وفى كل الأحوال، فإن النخب السياسية القديمة والجديدة تتحمل القسط الأكبر من المسئولية، بأنها تتصارع على السلطة وكأن الأوضاع طبيعية، ولا يقدر أحد مدى خطورة العامل الإقليمى والدولى وقدرتهما على التدخل والتأثير داخل دول الربيع بالإعاقة والتعطيل، أو تعديل وتغيير المسارات لصالحها، ومن لا يصدق ذلك فلينظر إلى الحال فى العراق وسوريا ولبنان ومصر أيضًا.