بقلب حنون فى رهافة قلب الطيور وعقل جبار وتسعة أصابع فى كفين صنع لويس إيناسيو داسيلفا معجزة البرازيل ومعجزته الخاصة. داسيلفا الرئيس البرازيلى السابق وصفة غريبة على رؤساء العالم الثالث لكنها الحقيقة فقد غادر صانع المعجزات مختارا راغبا كرسى الحكم ولم يمنح أذنيه لبطانة السوء ولا حتى للملايين التى أحبته وأطلقت عليه بطل الفقراء ونصير المحرومين، ومنذ ثلاثين شهرًا تقريبًا يسكن قصر الرئاسة البرازيلى مطمئنا من ثورات الغضب والجوع امرأة فى تجربة أيضًا غريبة على دول العالم الثالث.. اسمها ديلما فانا روسيف ابنة مهاجر بلغارى وقادمة من صفوف اليسار تستكمل معجزة سابقها ومعلمها وقدوتها داسيلفا.. وهى التى استقبلت رئيسنا د. مرسى الذى ذهب بالتأكيد إلى هذه البلاد البعيدة ليستطلع عن قرب هذه المعجزة التى صنعها رئيس بتسعة أصابع وشعب قرر ألا ينتحر أو يدع غيره ينحره. (1) فى سنوات التغييب العمدى والمختار السابقة التى عشناها - واستهلكت جيلا وألقت ببذورها المسمومة فى تربة جيل آخر على الأقل - أشياء كثيرة كانت تحدث لنا فجأة ومعارف كثيرة كانت غائبة عن أذهاننا - بسبب الغياب - صرنا نكتشفها فجأة على الرغم من أنها كانت تمر وتمضى أو تتكون وتتكدس مثل الخلايا السرطانية أمام أعيننا فلا نعير لها الانتباه الكافى، على سبيل المثال غابت مصر - مبارك عن أفريقيا وتثاقلت خطواتها الدبلوماسية فسمحت لقدم الاستعمار السوداء أن تتقدم وتسكن قلب أفريقيا وتنشئ أكبر قاعدة عسكرية لها هى قاعدة «أفريكوم» وهى ليست فقط قاعدة للطائرات والدبابات والجنود الأمريكية ولكنها أيضًا مستشفى للمرضى المدنيين الأفارقة وكنيسة للتبشير ومركز لتوفير المعلومات للمستثمرين ورجال الأعمال البيض وقاعدة نهب غربية جديدة للبترول الذى تفجر فى منطقة القرن الأفريقى وأهم وأخطر من كل ما سبق عامل تهديد للأمن القومى المصرى. ليست أمريكا فقط، إسرائيل أيضًا تمددت فى المنطقة ووثقت علاقاتها بدول حوض النيل حتى صارت حليفًا استراتيجيًا بالنسبة لإثيوبيا التى يأتينا منها 85% من مياه النيل وراحت تبنى السدود على النيل لإثيوبيا وكينيا والكونغو ورواندا وتعقد مع هذه الدول تحالفات أمنية واستخباراتية وتبيع لها السلاح وتبعث برجالها لتدريب الأفارقة عليه أو تضمن للنظم الأفريقية المهددة الاستقرار والاستمرار فى الحكم من خلال شركات ومرتزقة الأمن الخاص، تستغل كل شىء وأى شىء لقد تعلمت درسًا مهمًا من حرب 73 مع مصر وهى ألا تدع أحدًا غيرها يتحكم فى مدخل البحر الأحمر من الجنوب فيخنق بحريتها ويهدد غواصاتها، هذا هو العمق الاستراتيجى الذى يسمح لإسرائيل بمنع مرور السلاح المهرب إلى فلسطين ونقطة الارتكاز التى تبدأ منها الهجوم على إيران فى حرب قادمة أو منتظرة وورقة ضغط على مصر من خلال التحكم فى مياه النيل وفوق كل ما سبق لمن تترك إسرائيل ثروات أفريقيا المعدنية - الماس والذهب واليورانيوم - تذهب؟ هذا هو السؤال الذى لم يسأله المسئولون المصريون لأنفسهم منذ سنوات عديدة كانوا مشغولين فيها بالتفاوض على قروض صندوق النقد والبنك الدوليين. (2) أردت أن أكتب عن معجزة الشفاء البرازيلية فوجدتنى أسترسل فى وصف حالة المرض المصرية، التى لم تعد تحتمل مسكنات ولكن تحتاج إلى جراحة عاجلة تبدأ من رأس الدولة، مصر تنتظر بطلها وموعودها تمامًا مثلما كانت تنتظره البرازيل ووهبته لها السماء بدايات الألفية الثانية فى شخص الرئيس والمدير ذى الأصابع التسعة الذى كانت تكفيه ثمانى سنوات من الحكم ليصعد بالبرازيل من القاع إلى القمة وينقل معه ملايين من الفقراء صعودا فى هرم الطبقات ليعيدوا بناء الطبقة المتوسطة العمود الفقرى الذى يشد عود الشعوب ويضمن نجاح تجارب النهضة فى البلدان الطامعة لتحقيقها. نهاية 2002 وصل داسيلفا إلى مقعد الرئاسة من خلال انتخابات حرة ونزيهة منحه فيها 60% من البرازيليين أصواتهم، والمعنى أن قريب من نصف البرازيليين لم يختاروه لكن 60% من الأصوات هى نسبة كافية لشعب عانى طويلا ومريرا من حكم الجنرالات، وما بين حجتى داسيلفا والحكم الديكتاتورى كانت هناك مرحلة انتقالية لم تزد على 15 عامًا تولى فيها الحكم رؤساء مدنيون لكنهم لم يستطيعوا أن يعالجوا جراح البرازيل التى خلفها رجال الحكم الديكتاتورى وحكوماتهم التى راهنت على الغرب وعلى النموذج الرأسمالى وتبنت الدفاع عن مصالح رجال الأعمال واصحاب الشركات وتوجهاتهم، وتجاهلت بالتبعية الفقراء ومن فى حكمهم، واقترضت بالتأكيد من مؤسسات الغرب المالية حتى أغرقت البرازيل فى الديون وفوائدها إلى حد الوقوف على حافة الانهيار (هل يذكرك هذا بشىء يخص التجربة المصرية؟!). (3) وعلى نفس النهج الاقتصادى مضى رؤساء البرازيل المدنيون الذين خلفوا الجنرالات فى الحكم يجذبون الدولة والشعب إلى القاع، وفى هذه الفترة التى امتدت من منتصف الثمانينيات من القرن العشرين وحتى مطلع القرن الحالى ارتفع الدين الخارجى للبرازيل إلى 250 مليار دولار وزاد الدين الداخلى تسعة أضعاف بعد أن طرحت حكومة الرئيس السابق مباشرة على داسيلفا هذا الدين إلى سندات مرتفعة الفوائد فهجر المستثمرون العمل وذهبوا يتاجرون فى هذه السندات. وبينما كانت البرازيل تترنح اقتصاديًا ظهر - كالعادة - البنك الدولى يداعب أحلام يقظتها بقرض مشروط قدره 30 مليار دولار، أما الشرط فكان معرفة التوجهات السياسية للرئيس البرازيلى القادم عبر الانتخابات التى كان مقررا لها عام 2002 والتى جاءت ب «داسيلفا» رئيسا للبلاد. (4) لأسرة فقيرة كانت تسكن الشمال الشرقى من البرازيل ولد داسيلفا، وانتقل مع أمه بحثًا عن زوجها الذى هجرها إلى مدينة ساوباولو وعمره لم يتجاوز شهرًا، وفى أفقر أحياء المدينة عاش داسيلفا طفولته وشبابه وتوقف تحصيله التعليمى عند السنة الخامسة من التعليم الأساسى بسبب الفقر لينزل الطفل إلى معترك الحياة مبكرًا جدًا، وينتقل بين مهن بسيطة ويتعرض فى عمر التاسعة عشر لحادث يفقد على إثره أصبعه الخنصر بسبب إهمال مالك المصنع له ولغيره ويكون هذا الحادث سببًا لاندفاعه فى العمل النقابى دفاعًا عن حقوق العمال، ثم تكوينه بعد ذلك هو ومجموعة من المثقفين والسياسيين لأول حزب عمالى يسارى عام 1980 وانخراطه بشدة فى العمل السياسى واعتقاله وسجنه لأكثر من مرة وخوضه لعديد من الانتخابات الحزبية والرئاسية وبجانبه النجاح له حتى استطاع عام 2002 النجاح فى الانتخابات والوصول للحكم. سيرة كفاح مغرية على الحكى لكنها مثل قصص كثيرة متشابهة وجديدها هو هذا التحول المذهل الذى استطاع داسيلفا الرئيس أن يحدثه فى اقتصاد بلاده، وذلك من خلال برنامج وخطة مكونة من عدد من الخطوات بدأت بفرض برنامج للتقشف تساعده سياسة مكاشفة ووضوح للشعب ودعوته للمشاركة فى الخروج من الأزمة بالصبر والتحمل. كانت هذه هى البداية أما النهاية فكانت سعيدة مثل نهايات الأفلام المصرية فى زمن الفن الجميل وما بين البداية والنهاية تفاصيل أخرى فانتظرونا فى حلقة قادمة.