عندما أنظر إلى أمريكا الجنوبية أتساءل: لماذا تفرّدنا نحن العرب بالفشل فى سياساتنا وثوراتنا وحكامنا وحياتنا؟ ولماذا الربيع اللاتينى أجمل وأبهى وأزهى وأروع من ربيعنا العربى؟ هل لأنهم بشر يعشقون الحياة ويصدقون مع أنفسهم ولايعانون من النفاق مثلنا فيغنون حين يريدون الغناء ويرقصون فى الشوارع حين تطق فى الدماغ فينتشون ويمارسون كل شىء بحب حتى لعب الكرة التى يتفوق عدد ممارسيها على عدد مشجعيها؟! بعد وفاة شافيز دبجنا المقالات وكتبنا الملفات عن هذا الرجل الأسطورة نصير الفقراء ولكننا لم نلتفت إلى هذه القارة التى تشبهنا فى سمرة الوجه ولكنها تختلف كلية فى بياض القلب! لماذا منطقتنا العربية منكوبة وأمريكا الجنوبية التى كانت بلادها أفقر منا وأكثر ديوناً منا وأكثر فساداً منا وأكثر ديكتاتورية منا.. إلخ، لماذا، وبرغم كل هذا، عندما اشتاقت إلى التحرر وثارت استفادت شعوبها بينما انتكبت شعوبنا، الفرق ثقافى وليس سياسياً للأسف، هذا كلام من الممكن أن يُغضب الكثيرين ولكنه للأسف صحيح برغم صدمته وصدامه، ولكم أن تنظروا ببساطة للفرق بين لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية والإخوان المسلمين فى مصر وليبيا وتونس واليمن والسودان وقطر.. إلخ. لكى تعرفوا الفرق بين الربيع اللاتينى والعربى اقرأوا تاريخ بعض رؤساء أمريكا اللاتينية وقارنوا، وسأحكى بعض التفاصيل بدون تعليق، رئيس الأوروجواى خوسيه موخيكا (José Mujica) تبرع ب90 فى المائة من راتبه لصالح الأعمال الخيرية، ليحصل بذلك على اعتراف دولى وعلى لقب «أفقر رئيس فى العالم وأكثرهم سخاءً»، يعيش خوسيه موخيكا (76 عاماً) رئيس الأوروجواى فى بيت ريفى مع زوجته لوسيا توبولانسكى، عضو فى مجلس الشيوخ، التى تتبرع هى الأخرى بجزء من راتبها، وفى مقابلة أجرتها صحيفة «إل موندو» مؤخراً، قال موخيكا إن أغلى شىء يملكه هو سيارته «الفولكس واجن بيتل»، تُقدر قيمتها ب1945 دولار أمريكى، وأضاف أنه يتلقى راتباً شهريا قدره 12 ألف و500 دولار ولكنه يحتفظ لنفسه بمبلغ 1250 دولار فقط ويتبرع بالباقى للجمعيات الخيرية، ويقول الرئيس إن المبلغ الذى يتركه لنفسه يكفيه ليعيش حياة كريمة، بل ويجب أن يكفيه، خاصة أن العديد من أفراد شعبه يعيشون بأقل من ذلك بكثير، ويشير مؤشر منظمة الشفافية العالمية أن معدل الفساد فى الأوروجواى انخفض بشكل كبير خلال ولاية موخيكا، إذ احتلت المرتبة الثانية فى قائمة الدول الأقل فساداً فى أمريكا اللاتينية. الأسطورة الثانية لولا دى سيلفا أروع وأشهر رئيس برازيلى بل وعالمى، الرجل الفقير الذى توقف عن التحصيل الدراسى فى خامسة ابتدائى، مما اضطره إلى العمل كماسح للأحذية لفترة ليست بالقصيرة بضواحى ساوباولو، وبعدها عمل صبياً بمحطة بنزين، ثم خراطاً، وميكانيكى سيارات، وبائع خضار، لينتهى به هذا الحال كمتخصص فى التعدين، وفى سن ال19، خسر لولا أصبعه الصغير فى يده اليسرى فى حادث أثناء العمل فى مصنع قطع غيار للسيارات، أثناء حكمه نجح فى تسديد الديون المتبقية بذمة البرازيل فى سجلات صندوق النقد الدولى قبل عامين من الموعد المحدد للتسديد، وبذل قصارى جهده لتحرير البرازيل من وطأة الديون الخارجية، حتى حررها تماماً من ديونها كلها، وأطلق فى ولايته الثانية برامج (تسريع النمو) متحدياً العقبات الروتينية التى كانت تقف بوجه المشاريع الاستثمارية، وسعى إلى المواءمة بين القطاعين (العام والخاص) فدمجهما فى سياسة الشراكة، واستطاع أن ينتشل أكثر من عشرين مليون برازيلى من مخالب البطالة، وكان من ألدّ أعداء الفقر، فخاض ضده أشرس معارك مكافحة الجوع، حتى صار (سيلفا) رمزاً عالمياً لفقراء العالم، فاستحق أن يطلقوا عليه (نصير المحرومين) و(زعيم الفقراء)، وتصاعدت شعبيته فى الداخل والخارج، وحجز له مكانة مرموقة بين زعماء العالم، فكان من ضمن قائمة الخمسين الأكثر نفوذاً فى العالم. وبعد أن صنع هو وشعبه هذه المعجزة الاقتصادية لم يجدد مدة حكمه بالرغم من رفض 80% من شعب البرازيل رحيله عن الحكم. الربيع العربى تحول إلى خريف، والربيع اللاتينى هزم الخريف.