هذه قضية لا تحتمل ترف التجاهل أو حتى التأجيل.. قضية مياه النيل وما يتردد عن تنفيذ مشروعات من شأنها حرمان مصر من جزء غير قليل من حصتها المائية.. الإنصاف يقتضى أن نقول إن مشكلة مياه النيل ليست من صنع النظام الحالى، وإنما هى ميراث ثقيل من النظام السابق الذى أهمل علاقات مصر الأفريقية.. خاصة دول حوض النيل فأصبحت دولة مثل إثيوبيا بالنسبة لمصر نسيًا منسيًا بعد أن كانت شريكًا أساسيًا فى السياسة والاقتصاد.. وليس معنى ذلك أن يحرر النظام الحالى نفسه من عبء التعامل مع هذه المشكلة.. فليس معنى أنه لم يكن المسئول عن المشكلة ألا يكون مسئولًا عن الحل! لكن لا بد أن نعرف أولًا.. هل صحيح أن هناك مشكلة.. أم أنها مجرد مناورة سياسية لتحميل النظام الحالى ثمن فواتير قديمة؟!وإذا كانت هناك مشاكل كثيرة تحتمل التهوين والتهويل فإن مشكلة مثل مشكلة مياه النيل لا تحتمل التهويل ولا التهوين.. ذلك لأن مياه النيل قضية أمن قومى.. والأمن القومى يحتاج إلى خطط واستراتيجيات وقرارات صعبة وحاسمة مثل التدخل العسكرى أحيانًا، ومن ثم لا بد أن نعرف حجم المشكلة بالضبط لكى نأخذ القرار الصحيح والصائب. فى هذا الإطار نجد أن هناك من يؤكد أن حجم المشكلة أكبر من أى تصور.. وأن الأخطار التى ستتعرض لها مصر باتت وشيكة.. وأن نهر النيل على وشك أن يفقد هويته ويتحول من نهر إلى ترعة!.. ومن الطبيعى أن ينظر البعض إلى هذا الكلام على أنه نوع من التهويل والمبالغة. وفى المقابل نجد من يقول إن مصر التى كانت هبة النيل ستظل هبة النيل.. وأنها فى أمان مائى تحت أى ظرف.. ومن الطبيعى أيضًا أن ينظر البعض إلى هذا الكلام على أنه نوع من التهوين. وهكذا نجد أن مشكلة مياه النيل تعانى ما تعانى منه أى مشكلة أخرى تقع تحت تأثير التهويل والتهوين. من أين نبدأ ؟! *** نبدأ بالذين يتحدثون عن الأخطار التى ستتعرض لها مصر والتى باتت وشيكة وقريبة بسبب نقص حصة مصر من مياه النيل.. نبدأ بالتهويل فنجد من يؤكد أن إثيوبيا أعلنت بالفعل عن خطة لبناء خمسة سدود متتالية على النيل الأزرق الذى يمد نهر النيل فى مصر بالغالبية العظمى من مياهه. ويؤكد هؤلاء أن إثيوبيا بدأت بالفعل فى بناء أول سد منها.. سد النهضة.. مخالفة بذلك ما تم الاتفاق عليه من قيام لجنة فنية ثلاثية، أولًا مشكلة من الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا لتقييم آثار السد على دولتى المصب (مصر والسودان). وما الذى يترتب على ذلك؟ يقول الخبراء المهولون - إن صح التعبير - إن السد الإثيوبى سيتسبب فى احتجاز 15 مليار متر مكعب من المياه سنويًا ولمدة خمس سنوات - هى فترة امتلاء السد الإثيوبى - وهو ما يعنى حرمان 3 ملايين فدان مصرى من الزراعة. ومعنى ذلك كله - كما يقول الخبراء المهولون - إن النقص فى حصة مصر من مياه النيل سيؤدى إلى زيادة الفجوة الغذائية من 55% إلى 75%.. وهو ما سيؤدى بدوره إلى استنزاف الكثير من موارد النقد الأجنبى فى استيراد ما نحتاجه من غذاء. فى نفس الوقت فإن خطط مشروعات استصلاح الأراضى فى سيناء وتوشكى والساحل الشمالى والزمام الصحراوى لمحافظات الوادى والدلتا.. كلها ستتوقف. ويمضى الخبراء المهولون خطوة أبعد فيقولون إن نقص حصة مصر من المياه سيؤدى إلى عدم امتلاء بحيرة ناصر وهو ما سيؤدى بدوره إلى انخفاض أو انعدام توليد الكهرباء من السد العالى. ويؤكد هؤلاء الخبراء أن نهر النيل فى مصر سيتحول إلى ترعة يصرف فيها الماء بأوامر إثيوبيا وحدها! ولا يصبح لبحيرة ناصر أهمية ومعنى، وكذلك للسد العالى.. الذى سيكون هدمه أفضل لتقليل البخر من بحيرة ناصر! وفى النهاية سنكون تحت رحمة إثيوبيا بالكامل.. أو بمعنى أكثر دقة سنكون مضطرين لإبلاغ إثيوبيا مسبقًا باحتياجاتنا من المياه لتلبية ما يحتاجه قطاع الزراعة والمنازل والصناعة والمحليات حتى تتفضل بصرفها لنا.. يوما بيوم! هذا ما يؤكده الخبراء المهولون.. لكن الخبراء المهونون لهم رأى آخر! *** يؤكد هؤلاء المهونون أن حصة مصر من مياه النيل المتاحة حاليًا والتى تقل إلى 55.5 مليار متر مكعب سنويًا.. والتى تمثل الحد الأدنى لاحتياجاتنا.. مأمونة ومضمونة لأسباب كثيرة فى مقدمتها الطبيعة الجغرافية، حيث إن الماء يتدفق من من الجنوب إلى الشمال دون تدخل أو إرادة لبشر.. ومن ثم يصعب على أى دولة تغيير المنحنيات والانحناءات الصعبة التى يتخذها مجرى النهر. ويضيف الخبراء المهونون أن استقرار حصة مصر لعدد كبير من العقود على نحو هادئ ورتيب وعلى مرآى ومسمع من العالم.. كل ذلك يجعل الأمر حقًا مكتسبًا، كما أن مصر لديها غطاء قانونى دولى قوى يحميها من أى تدخل فى مقدرات المياه، بل ولديها غطاء عرفى وتنظيمى مع دول حوص النيل التى وقعت اتفاقيات كثيرة مع مصر تؤمن لها الحصول على حصتها من مياه النيل والتى تصل إلى 55.5 مليار متر مكعب سنويًا. وإذا كانت حجة إثيوبيا ودول حوص النيل فى تعديل اتفاقيات مياه النيل هو أنها أبرمت فى عهد الاستعمار فإن مبادئ القانون وأحكام القضاء الدوليين - كما يؤكد الخبراء المهونون - تلزم دول العالم بأى اتفاقيات مهما تغيرت أنظمتها الحاكمة. كل ذلك بالإضافة إلى أن مشاركة البنك الدولى فى تنفيذ المشروعات التى تقيمها إثيوبيا مشروطة بحصول البنك على موافقة دول المصب (السودان ومصر).. وبعد ذلك كله وربما قبله فإن السياسة الهادئة التى تتعامل بها مصر مع دول حوض النيل لن تضطر مصر معها للتصادم لا مع إثيوبيا ولا مع غيرها. باختصار يقول الخبراء المهونون لنا: اطمأنوا! *** يبقي بعد ذلك أن نعرف بدقة من على حق: المهولون أم المهونون.. ويستلزم ذلك كلام واضح وصريح من كل الجهات المعنية والمسئولة.. وزارة الرى.. وزارة الخارجية.. القوات المسلحة.. مؤسسة الرئاسة. فى انتظار كلامهم!