«لا أحد يستطيع أن يقتل وطنا يعيش داخل إنسان» كلام رائع يصب فى خانة دغدغة المشاعر الإنسانية، صاحبه مخرج سينمائى شاب اسمه أمير رمسيس، صنع فيلمًا تسجيليًا عن يهود مصر، وأجرت معه صحيفة الأهرام حوارًا حول فيلمه استعارت منه هذه الجملة عنوانا للحوار ، أما الفيلم نفسه فقد أثار بعض الجدل خلال الأسابيع الأخيرة. وحتى كتابة هذه السطور لم يتسن لى مشاهدة الفيلم وبالتالى فالشريط السينمائى ليس موضوعا لهذا المقال ولكن اليهود بعامة ويهود مصر خاصة هم الموضوع، وإذا ما تطرقت للفيلم فسوف أعتمد على كلام المخرج المنشور فى الأهرام ص 22 بتاريخ الخميس 11 إبريل الحالى.(1) لنتفق من البداية أن فيلم أمير رمسيس ليس فيلمًا وثائقيًا حتى ولو تمت نسبته شكليًا لهذا النوع من الأفلام، ذلك لأنه لا يوثق للموضوع الذى يتناوله، ولا يزيد عن كونه رؤية فنان شاب ذهب وراء مشاعره الإنسانية التى لا تخلو من رومانسية وترجمها إلى شريط مسجل بالصوت والصورة لبعض الشهادات عن يهود مصر، غلبت فيها الرؤية الشخصية ورسخت رؤية الفنان على حساب الموضوعية وغياب اجتهاد الباحث عن الحقيقة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعلقة ب«يهود مصر».. من أين أتيت بهذا الحكم وقد أسلفت أننى لم أشاهد الفيلم؟! من الأسئلة المبدئية التى طرحها المخرج على نفسه وعلى قراء الأهرام وهو يدافع عن الأفكار التى حملها فيلمه وأسس عليها قضيته، وكعينة من هذه الأسئلة المذكورة فى الحوار يقول المخرج مستنكرا: هل جميع اليهود المصريين الموجودين فى تلك الفترة كانوا كلهم جواسيس للصهيونية العالمية.. أم أن فيهم مصريين وطنيين؟.. وهل نحن ضد اليهودية كديانة أم ضد الصهيونية كمذهب سياسى؟ وما الفارق بينهما؟! هذه هى الأسئلة التى ذهب الفيلم يبحث عن إجاباتها لدى فريقين: الأول اليهود المقيمون فى باريس، والثانى مجموعة من الشيوعيين واليساريين المصريين منحهم المخرج صفة المؤرخين وما بين المرجعيتين اليسارية الشيوعية واليهودية، لم يدرك المخرج أنه يخرج بقضيته من إطار الهوية والخصوصية المصرية فضلًا عن أدلجتها وتسييسها بدلًا من أنسنتها، والسبب أن الذهنية الشيوعية ترى العالم وقضاياه من منظور مشروعها الأممى وليس على أرضية قومية أو محلية، بينما تتعامل الذهنية اليهودية مع قضايا الجوييم (الغرباء) وخاصة العرب من خلال مشروعها الصهيوني؟! وبناء عليه نرد الأسئله على صاحبها: عندما اضطلعت بصنع هذا الفيلم هل كنت ترى المصريين ضد اليهودية كديانة.. أم ضد الصهيونية كمذهب سياسى؟ أراهن أن تعرف أنت الفارق مابين اليهودية العقيدة والصهيونية المذهب السياسى. دعنى أصدمك فأقول أن هذا الطرح بهذه الكيفية خطأ وينم عن جهل معرفى لا يغفر شيوعه أن يقع فيه أصحاب الفكر، وما كان يصح لك أيها المخرج الشاب أن تتهم به مقدما الذين لم يتعاطفوا مع أفكارك السينمائية، بل استخدمته مثلما يستخدمه اليهود لتخويف أعدائهم: هل تخلط بين اليهودية والصهيونية؟ هل تدخل الدين فى السياسة؟! (2) اسمح لى أن أصحح لك ولمن يريد أن يعرف أو يفهم.. يا عزيزى إن الصهيونية ركن أساسى من أركان العقيدة اليهودية، ومن فضلك ارجع إلى التوراة أول مشروع صهيوني فى التاريخ واحص كلمة صهيون وسوف تكتشف أنها وردت لفظا (صهيون) حوالى 200 مرة ،وكلها تشير إلى العودة إلى فلسطين أرض المواعيد (جمع موعد) الإلهية وإرث نسل إسرائيل ومدار الفكر الدينى اليهودى الذى يؤمن أنه فى صهيون يسكن الإله اليهودى (يهوه) وهى مركز الخلاص المسيانى (عودة المسيح المخلّص فى آخر الزمان) واقرأ فى المزامير أناشيد صهيون، هذا إذا أردت أن تفهم ما هى العلاقة مابين اليهودية والصهيونية.. يا عزيزى ليس هناك يهودى لا يتمنى العودة إلى صهيون وسكناها وإحياء مملكة داود وسليمان على أساس دينى عنصرى حتى ولو كان علمانيا أو ملحدا فاليهودية جنسية قبل أن تكون دينا والصهيونية وطن قبل أن تكون فكرة أو سياسة، والآن لم تعد هناك أية حدود بين السياسة والدين فى إسرائيل أو يهود الخارج ، وقبل عدة سنين كان هناك من رجال الدين اليهودي من يرفض قيام دولة إسرائيل بيد الإنسان (السياسيين) لأنهم ينتظرون تحقق ما جاء به التلمود من عودة المسيح اليهودى إشارة من الرب لإقامة دولة اليهود ومملكة الرب، وهؤلاء الرافضون انتهى بهم الأمر الآن إلى الرضى بما تم إنجازه على أرض الواقع بل صاروا يدفعون بالأحداث إلى النهاية التى ينتظرونها وتحقيق الحلم السياسى كاملًا ببناء المعبد الثالث مكان الأقصى الحالى هؤلاء هم المتدينون ياعزيزى أما العلمانيون اليهود الذين دعوا أبناء جلدتهم فى القرون السابقة إلى حركة التنوير (الهسكالاة) والتى كانت تعنى أن يندمج اليهود الذين يعيشون فى بلدان العالم المختلفة فى شعوب هذه البلاد بدلًا من العيش فى مجتمعات مغلقة (جيتو) منعزلين غامضين فى نظر شعوب هذه البلدان فترفضهم بسبب هذه الأفعال وتمييز أنفسهم ، كان هذا أيام لم يكن لليهود دولة. والمخرج الشاب يقول إن 7% فقط من اليهود الذين خرجوا من مصر ذهبوا إلى إسرائيل، وأنا بدورى أسأله من أين حصلت على هذه الإحصائية؟ وإذا كانت صحيحة فهل معنى هذا أن الذين هاجروا إلى دول أخرى لم يخدموا المشروع الصهيونى أو قيام إسرائيل؟! ..عزيزى المخرج الشاب هل تعرف شيئًا عن سيرة اليهودى المصرى المدعو حاييم سابان أو سيرة الممثلة اليهودية المصرية الشهيرة راقية إبراهيم التى تحولت فى نسختها الصهيونية إلى راشيل إبراهام ليفى وغيرهما كثيرون ، حاربوا وطنهم - الذى ولدوا فيه وأنبت لحمهم «مصر» - بشراسة وقدموا خدماتهم ومازالوا للكيان الصهيونى، هل ذكرت مثل سابان وراقية أو راشيل فى فيلمك؟ لا أظن. اليهود ليسوا جميعًا شياطين.. نعم، لكن اليهود كلهم ياعزيزى لا يرون الصهيونية كما نراها نحن الآن، ويمكن أن نحيل الحالات التى لم تتعاطف مع المشروع الصهيونى قبل تكوين الدولة إلى التاريخ المتحفى، وقد سبق وكتبت منذ أسابيع قليلة عن شحاتة هارون وغيره من يهود مصر الذين تمسكوا بمصريتهم، لكن زمن شحاته هارون راح وانقضى، وقلت لم يعد هناك من اليهود الأحياء الذى يمكن أن يستجيب للدعوة التى أطلقها د. عصام العريان وطالب فيها يهود مصر أن يعودوا لوطنهم بعد أن يتم تحرير فلسطين العربية (!!) (3) هذا بالضبط هو ما يريده اليهود، مثل هذا الفيلم عن يهود مصر ومثل هذه الدعوة التى أطلقها العريان، وفيهما تكمن الخطورة لو عرف وفهم المخرج الشاب والسياسى الإخوانى، أنهما يخدمان على دعاوى الشياطين من حيث لا يدريان، فيهود العالم يروجون أن لهم حقوقًا تاريخية فى تراثنا الحضارى والثقافى، ويروجون أن لهم أملاكًا عينية وأصولًا مادية سلبت منهم فى مصر والبلاد العربية، وهم ينتظرون الظرف الزمنى المناسب ليسلكوا حيال هذه الدعاوى نفس السلوك الذى جربوه من قبل وابتزوا به الحكومات والدول الغربية والسياسيين، بل والكنيسة الكاثوليكية.. واعتقد أنه لو فهم أصحاب النوايا الطيبة من أهلنا الطيبين هذا لفكروا كثيرًا فيما يصدر عنهم ليس من باب عدم رد المظالم والحقوق لأصحابها ولكن من منطلق حفظ حقوقنا نحن ورد المظالم عن أنفسنا.. (4) يا أهلنا الطيبين لا تأخذنكم العزة بالإثم والغفلة بالجهل فتنساقوا وراء مشاعركم الضاغطة على أفهامكم وتبتلعوا أفكار الغرب المسمومة من عينة المواطنة وقبول الآخر والعولمة والكوكبة فما هى إلا إعادة إنتاج لبضاعة مسمومة، يرددها بيننا اليوم انصاف المثقفين والجهلاء، وتلوكها الألسنة مع كل أزمة أو مشكلة مقصودة أو مرتبة ما بين مسلمين وأقباط مصريين وأتمنى لو يفهم كل مصرى ما وراء هذه الأفكار التى روج لها اليهود ونجحوا فى تحويلها فى الغرب إلى ثقافة وتشريع ليخترقوا بها الشعوب ويسيطروا على الحكومات، أما فى بلادنا فنحن لا نعانى من مثل هذا، وليس هناك فروق بين مصرى ومصرى بسبب الدين وأجزم أن هذه قناعة الغالبية العظمى من المصريين حتى ولو شذ عن القاعدة نسبة ما فهذا وارد. هى أفكار تم تصديرها لاختراق جدار الوحدة الوطنية الصلب يمر من خلالها من يريدون أن يعودوا إلى مصر لينتقموا منها كما أخبرتهم إشارات كتبهم المقدسة التى رسخت فى أذهانهم أن المصريين أذلوهم وطردوهم وطاردوهم، هذه ثارات مقدسة يرددونها فى صلواتهم. ولنعتصم نحن بالتسامح الإنسانى، فهذه ليست دعوة للكراهية، لكن مطلوب منا أيضا ألا نكون مغفلين أو نساعد على نشر فقه الاستغفال بيننا.