غدٍ بظهر الغيب واليوم لى وكم يخيب الظن فى المقبل ولست بالغافل حتى أرى جمال دنيايا ولا أجتلى *** أفق خفيف الظل هذا السحر وهاتها صرفا وناغ الوتر فما أطال النوم عمرا ولا قصر فى الأعمار طول السهر صاحب هذه الأبيات.. والتى تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم هو غياث الدين عمر أبو الفتح بن إبراهيم.. الشهير بعمر الخيام كان مجموعة من الأشخاص.. فى شخص واحد.. فقد كان عالما بالتاريخ بارعا فى الطب خبيرا بالإلهيات.. عاشقا للنجوم دارسا للفلك.. له العديد من الكتب فى الفقه والوجود والكون وصاحب أول تقويم لعيد النيروز الذى يعمل به فى فارس حتى الآن. ذاق الفقر.. ونعم بالثراء.. وظل فترة طويلة منسيا لا يذكره أحد.. إلى أن اكتشفت أشعاره والتى سميت «بالرباعيات» فأعطته شهرة فاقت ما قبله وظلمت ما بعده. ولقد أجمع كل من كتب عنه أنه كان نابغا منذ صغره.. مقبلا على التعلم بكل حماسة.. متنقلا بين البلاد للبحث عن كل جديد فى كافة المجالات.. ولذلك جمع بين الشىء وضده .. فقد حج البيت الكريم.. وكان متصوفا فى بعض حالاته، ولكنه كان محبا للخمر.. متشككا فى جدوى الحياة عائبا على قصرها وكان دائما ما يقول.. فى نثره وشعره: ما لنا نعيب القضاء وهو مسير بإرادة عالية، ولم خلقت وكيف لا أستطيع الرحيل متى أردت وكيف نعاقب وقد كتب علينا فى لوح الغيب ما نقترف؟ ثم يعود لرشده ويطلب الرحمة والمغفرة للمذنبين طمعا فى كرم الله ولطفه، وسرعان ما يعود إلى تجرع الخمر فترجع إليه نفسه المتشائمة ويتساءل.. ما دامت الحياة بهذا القصر فعلام الألم ومئوانا التراب ومجلسنا على العشب الذى غذته أوصال الغابرين؟ وأكوابنا من الطين الذى اختلطت فيه رءوس الملوك بأقدام السوقة، ثم ينعى على الموت ويؤلمه أنه لم يعد أحد ممن ذهبوا فيخبر عن حال الراحلين! *** نعم لقد كان عمر الخيام مجموعة من التناقضات الغريبة.. عالمًا.. ومفكرًا.. وفليسوفًا.. ومتصوفا.. وخبيرا فى علم الفلك ودوران النجوم.. ثم شاعرا طافت شهرته الزمان وتغنى بها أشهر المطربين فى كل مكان. ويقول عنه شاعرنا الراحل أحمد رامى والذى ترجم رباعياته من الفارسية إلى العربية.. لقد حار الأدباء فى فهم الخيام، فمنهم من عده مستهترا لايعتقد بالبعث ومنهم من أنزله منزلة الصالحين راسخ اليقين، على أن الخيام كان جبريا يعتقد أن الإنسان تسيره قوة خافية لا يملك دفعها ولا تدع فرصة الاختيار بين النافع والضار ولذلك جاءت الرباعيات معبرة عن كل ذلك؛ فالخيام فيها تارة متفائلاً وأخرى متشائمًا؛ ثم قدريًا ثم متصوفًا وأحيانا يميل إلى اليأس إلى حد السخرية من الحياة ومن كل شىء فى الوجود. لبست ثوب العيش لم استشر وحرت فيه بين شتى الفكر وسوف أنضوا الثوب عنى ولم أدرك لماذا جئت وأين المفر *** خلقتنى يا رب ماء وطين وصنعتنى ما شئت غرا وهين فما احتيالى والذى قد جرى كتبته يارب.. فوق الجبين؟ ثم نجده متصوفا قدريا.. مناشدا الله العفو والمغفرة: يا من يحار الفهم فى قدرتك وتطلب النفس حمى طاعتك أسكر فى الاثم ولكننى صحوت بالآمال فى رحمتك يا عالم الأسرار علم اليقين وكاشف الضر عن البائسين يا قابل الأعذار عدنا إلى ظلك.. فأقبل توبة التائبين *** رحم الله شاعرنا الكبير عمر الخيام الذى كان آخر ما نطق به قبل أن يسلم الروح إلى خالقها: «اللهم إنى عرفتك على مبلغ إمكانى فأغفر لى ؛ فإن معرفتى إياك وسيلتى إليك»