أن الشاعر الراحل قد واجه تجاهلا رغم قيمته الإبداعية وقامته الشعرية وفى ذلك إدانة واضحة للأوساط الثقافية، خاصة من الحركة النقدية الأدبية فى ذلك الوقت التى تتحمل تبعة هذا التجاهل الذى لازمه طوال حياته.. لتأتى «الأطلال» قصيدته الرائعة كنافذة تطل من خلالها الجماهير على إنتاجه الشعرى ويسترد بها ناجى مكانته اللائقة بأمثاله من الشعراء الكبار وإن كان لم يشهدها حيًا.. ولذا فأرى من الضرورى أن استهل مقالى عنه فى سابقة لم تحدث لى طوال عهدى بالكتابة الصحفية عبر أكثر من خمسة وثلاثين عامًا.. وذلك بتقديم اعتذارين أولهما اعتذار للقراء الأعزاء لأنهم أصبحوا فى الربع قرن الأخير يعرفون ناجى حق المعرفة وليسوا بحاجة إلى مزيد منها، خاصة بعد نشر دواوينه الأربعة وراء الغمام سنة 1934 وليالى القاهرة 1944 ومعبد الليل 1948 والطائر الجريح 1953 وهو عام رحيله، وقد قام المجلس الأعلى للثقافة بنشرها مجتمعة فى مجلد واحد عام 1966. وهنا أوجه هذا المقال للأجيال الناشئة التى لم تعرفه، خاصة بعد أن صار الشعر منفصما عن أهل صنعته الحقيقيين بينما حمل رايته أنصاف المواهب من المبتدعين للصيحات الحديثة لقوالب الشعر والتى أفقدته موسيقيته المعهودة بما فى ذلك ما يرد خلاله من معان سامية ترتقى بالأحاسيس وترتفع بالمشاعر، أما الاعتذار الثانى فهو للشاعر إبراهيم ناجى نفسه، حيث جاء عنوان المقال «صاحب الأطلال» اختزالا لكل جهده الشعرى ومجمل إنتاجه القيّم فى هذا المجال فى قصيدة واحدة هى «الأطلال». وقد ألتمس لنفسى عذرا جليا فى ذلك وهو أن هذه القصيدة مرت بثلاث تجارب لحنية كان آخرها رائعة أم كلثوم ورياض السنباطى وكأن ناجى لم يقرض شعرا سواها.. وحتى لا أكون مجافيا للحقيقة فإن أم كلثوم والسنباطى بموهبتيهما النادرتين استطاعا أن يخرجا قصائد كبار الشعراء من أرفف المكتبات إلى آذان وعقول وقلوب الجماهير الذواقة للفن الأصيل.. وكان ذلك لشعراء من أصحاب القامات المهيبة فى المجال الشعرى ومنهم أمير الشعراء أحمد شوقى وشاعر النيل حافظ إبراهيم وشاعر الذكريات أحمد فتحى وشاعر اللوعة كامل الشناوى وحتى السابقين من فحول الشعر كأبى فراس الحمدانى وغيرهم ممن تضيق بهم المساحة. qqq ولم تكن حياة إبراهيم ناجى أقل شجنا من قصائده، كما لم تختلف عن لوعة ومأساوية أشعاره رغم ما بها من رومانسية عاطفية أخاذة، ولكنها مقترنة بأسباب الهجر والحرمان.. وقد عانى ناجى فى مقتبل شبابه بمرض السكر الذى داهمه وأصابه باعتلال صحى لازمه طوال حياته.. وقد تخرج الشاعر الراحل فى كلية الطب عام 1922 ولم تكن آنذاك قد ظهرت مواهبه الشعرية، حيث بدأ قرض أشعاره بعد ذلك بأربع سنوات فى عام 1926 حين انتهى من قراءة دواوين الشعر العربى لكبار الشعراء أمثال المتنبى وابن الرومى وأبى نواس، فضلًا عن قراءته لأشعار من الثقافات الغربية مثل قصائد شيلى وبيرون وآخرين من رومانسىّ الشعر الغربى، كما نشر بعضا من دراساته فى هذه القراءات فى مجلة السياسة الأسبوعية.. لتتكون لديه ذخيرة شعرية أهلّته لأن يصبح رائدًا من رواد شعر الهوى والغرام وترسخت مكانته الشعرية فى ديوانه الأول «وراء الغمام» لينضم إلى المدرسة الشعرية الوليدة آنذاك وهى مدرسة أبولو والتى أصبح وكيلا لها بينما كان رئيسها الشرفى أمير الشعراء أحمد شوقى وأمينها العام أحمد زكى أبو شادى وقد أفرزت هذه المدرسة نخبة من الشعراء المصريين والعرب استطاعوا من خلالها تحرير القصيدة العربية من أغلال الكلاسيكية والخيالات اللامعقولة، وكذلك الإيقاعات التقليدية التى شاعت منذ الشعر الجاهلى واعتبرها المجددون وعلى رأسهم إبراهيم ناجى أنها تمثل قيودا على طلاقة الشعر وإبداعاته الوجدانية.. وقد واجهت نزعة التجديد فى مدرسة «أبولو» انتقادات عنيفة وقد نال إبراهيم ناجى أكثرها عنفا، حيث انتقده عباس العقاد وطه حسين وكان الاثنان قليلا ما يجتمعان على وجهة نظر واحدة، ولكنهما اعتبرا أن التجديد يخل بالقالب الشعرى المتوارث عبر أجيال.. بل تماديا فى نقدهما إلى اتهام التجديد بتدمير الشعر العربى كما ينذر بنهايته كفن أدبى يرتقى بالأحاسيس والمشاعر ويؤرخ لأمهات الأحداث الفارقة فى التاريخ العربى.. وأصيب ناجى من جراء ذلك بكل عوامل الإحباط، حيث مارس مهنته الأصيلة وهى الطب فعين طبيبا فى وزارة المواصلات، ثم فى وزارة الصحة ليرتقى وظيفيا ويصبح مراقبا للقسم الطبى بوزارة الأوقاف، ولكن تفاقمت حالته النفسية ليذهب إلى العاصمة البريطانية لندن أملًا فى أن يجد بها ملاذا يتيح له فرص التجديد التى اتخذها منهجا شعريا بعيدا عما واجهه من انتقادات أحبطت آماله فى هذا التجديد. qqq وبعد أن انتهت سنوات إقامته فى لندن إثر حادث أليم أضاف إلى معاناته النفسية عاهة عضوية استمرت معه طوال حياته ليعاود كتابة أشعاره التى تضمنت مغامراته العاطفية والتى كانت دائما قريبة للفشل مما أكسب أشعار ناجى فى تلك المرحلة طابعا تراجيديا يميل إلى المأساوية، ولكنه استطاع أن يضفى لمحات جديدة فى أشعاره مستمدا معطياتها من الطبيعة الخلابة لمدينته التى قضى بها فترة من شبابه وهى المنصورة، حيث انبهر بجمال نهر النيل والأجواء الرومانسية التى عايشها فى ريف الدقهلية.. وقد بدا ذلك واضحا فى عناوين دواوينه فى تلك المرحلة والتى سجل من خلالها تأملاته فى البيئة وجمال الأجواء فى شعر أقرب إلى الصوفية التى تقر بقدرة الخالق المبدع التى صورها كأجمل ما يكون التصوير.. وقد تواكب ذلك مع نشاطه الطبى، حيث افتتح عيادته فى حى شبرا الذى نشأ به وشهد نهايته أيضًا وفى مقر عيادته بشارع ابن الفرات بالحى الشهير ليتخذ مرضاه من هذا الحى ذكرياتهم معه كدليل على رهافة إحساسه وسمو مشاعره، حيث كان نشاطه فى عيادته أقرب إلى النادى الثقافى الذى يبث فيه لواعجه لمرضاه دون أن يتقاضى أجرا لعلاجهم مما ترك آثارا إيجابية لهؤلاء المرضى ظهرت واضحة جلية من حكاوى معظمهم التى تؤكد طيبة سجاياه وحسن خلقه ورقة مشاعره. qqq إن إبراهيم ناجى ذلك النموذج الإنسانى النادر لم يزل التجاهل الذى صادفه فى حياته مستمرا بعد مماته بستين عاما مما يلقى عبئا على عاتق الحركة النقدية الحالية فى المجال الشعرى حتى يتم إنصاف هذا الشاعر الكبير ورفع ما حدث له من ظلم لتعلم الأجيال الحاضرة مكانته السامية كأحد كبار شعراء العربية.