ترددت فى الآونة الأخيرة تصريحات لقيادات أمنية وعسكرية تهدف إلى تبديد مخاوف الشعب من الماضى القريب عندما كانت السلطة تبطش بالشعب عن طريق الشرطة بينما الجيش فى حرج بين السلطة الباطشة والشعب الضحية، ولذلك عندما واتته الفرصة للتعبير عن نفسه فإنه تقدم لحماية الثورة وضبط الأمن فى وقت سقط فيه النظام وانكسرت الشرطة وانفتحت السجون أو فُتحت وانطلق المجرمون يهددون المواطنين فى غيبة الشرطة التى كانت أداة طيعة فى يد الحاكم، الذى كان يتحصن بالشرعية الزائفة مما أحرج الشرطة أيضاً وصار الجيش والشرطة والشعب ضحية السلطة الباطشة. وهذا درس بالغ الأهمية وهو أن السلطة هى التى تستطيع أن تحقق الانسجام بين هذه الأطراف الثلاثة وتجعل كل هذه الأطراف فى خندق واحد وراءها لخدمة الاستقرار والتنمية والانسجام الاجتماعى والأمن القومى خصوصاً بعد ثورة نادرة فى التاريخ وشعب يبحث عن بناء دولة جديدة ومجتمع صحى ونظام سياسى فعال. فى هذه الظروف اشتد الصراع السياسى بين الرئيس والمعارضة مما يحدث عطلاً وتدهوراً فى الأوضاع الأمنية والاقتصادية بصرف النظر عن سبب تخبط السلطة أو توحش المعارضة، وهى علاقة معقدة جعلت الرئيس المنتخب غير قادر على تحقيق أهدافه، والشعب من وراء الطرفين يرتقب ويحكم ولكنه يعانى من هذا التدهور ويخشى على وطنه من المخاطر والمؤامرات التى تحتاج إلى مهارة فى المعالجة. هذا المناخ دفع القيادات العسكرية والأمنية إلى القلق وألقى عليها أعباء كبيرة لأن الجيش والشرطة هما الضامنان لأمن الوطن والمحافظة على كيانه. والمؤلم أن الصراع تحول إلى مواجهة وتخشى الشرطة أن تكون طرفاً فيها فتتهم من الشعب والرئيس بانتهاك حقوق الإنسان ولذلك فإن الشرطة ترى أن الصراع سياسى ولا تريد أن ترى أن هناك عدواناً على مؤسسات الدولة لا يمكن تبريره بأى مبرر حتى لو كان الرئيس فى نظر المعارضة عاجز عن تحقيق مطالب الوطن. وقد زاد من قلق الشرطة هذا الكم من العنف الذى اختلط فى مشهده عناصر ثورية وعناصر اجرامية مع تواتر الحديث عن مؤامرة وأموال تغذى تلك المؤامرة لإسقاط النظام وإذكاء حملة الكراهية والشيطنة ضد الإخوان المسلمين والاستخفاف بالرئيس الذى ترى المعارضة أنه يواجه عدم اليقين فى استخدام الجيش والشرطة كما يواجه معارك لا مبرر لها مع القضاء خاصة بعد حكم محكمة الاستئناف بشأن النائب العام القديم والجديد وكلها قضايا فى نظر الكثيرين تمت إدارتها مثل ملفات أخرى بدرجة عالية من عدم التوفيق. صحيح أن المعارضة تتجاوز وتربك الرئيس ولكن الصحيح أيضاً هو أن السلطة السياسية يجب أن تدرك كل ذلك وتتأهب له. وقد ظهرت خلال العام الماضى بعض المواقف سواء حقيقية أو مختلقة تؤدى إلى النيل من العلاقة بين الجيش والرئيس، ثم دخلت المخابرات أو أدخلت على الخط بتصريحات غير مسئولة، وكل ذلك يحمل على الرئيس وتستغله أوساط معارضة وإعلامية بشكل متعمد لخلق بيئة سامة تخدم النتيجة المرجوة وهى زعزعة استقرار مصر وارباك النظام وصرفه عن غايته. ومؤدى تصريحات الجيش والشرطة هو انهم على مسافة واحدة من السلطة والمعارضة وأنهما ينحازان إلى الشعب. هذا الموقف يعكس عدم اليقين فى صدد علاقة السلطة بالشعب وتخشى هذه القيادات أن تكون المسافة بينهما كما تصوره المعارضة فاختارت هذه القيادات أن تقف مع الشعب وعلى مسافات واحدة من السلطة والمعارضة. هذا الموقف لا يثق بأن السلطة تمثل الشعب كما أنه لا يثق بأن المعارضة هى التى تمثل الشعب، ولكن الصحيح هو أنه يجب أن تكون السلطة والمعارضة من مكونات النظام السياسى الذى يدعمه الشعب. ولعل هذا التحليل هو الذى يدفع الناس إلى القلق كما يدفع طائفة من محترفى الإجرام إلى الظهور على قاعدة أن من أمن العقاب أساء الأدب، وهم على يقين فى هذه الظروف من أن الجيش والشرطة لا يوفران الردع لأى أعمال غير مشروعة يقومون بها، وأصبح الشعب منكشفاً، وهذا هو المناخ المثالى للقلق الشعبى والضيق من السلطة والمعارضة معاً ومحاولة البحث عن بدائل أمنية واستعدادها أن تقبل ما كانت ترفضه، فطرحت فى هذه المساحة أفكار صارت محل جدل فى الشارع المصرى مثل: هل تحل اللجان الشعبية محل الشرطة، وهو أمر رفضته الشرطة، وعليها مقابل ذلك أن توفر الأمن للناس مما لا صلة له بالصراع السياسى بين السلطة والمعارضة. كذلك تم الدس تأثراً بتصريحات غير مسئولة بنية البعض تشكيل ميليشيات استعداداً للخطر، وتم التدليس على الناس ولعب الإعلام دوراً حاسماً فيه ويبدو أن هناك جهازاً منظماً يدير معركة عدم الاستقرار فى مصر ويساعده على ذلك أخطاء السلطة، وأصبحت السلطة غاضبة ولكنها غير قادرة على احتواء المواقف والتمكن من أدوات السلطة. فى ظل هذه الظروف ايضاً تجادل الناس حول تدخل الجيش لإقرار الأمن حتى يزدهر الاقتصاد، وتحفظ البعض بأن الجيش إذا نزل فإنه سيحكم أو يمارس السلطة فى المساحات المهجورة من جانب الحاكم، ومما يغذى هذا الجدل تصريحات وزير الدفاع التى تفهم بطرق مختلفة عند كل فريق ولكن الثابت أن الجيش يجب ألا يسمح بانهيار الدولة ولكن المشكلة فيمن يقدر توفر شروط هذا التدخل وشكله وتوقيته. والحق أن الناس تريد أن تطمئن إلى أنه مالم تتمكن السلطة من احتواء الموقف وتأمين الوطن والمواطنين فإن عجزها عن تحقيق ذلك لا يمكن تبريره مهما كانت أسبابه ولابد من قبول تدخل الجيش لملء الفراغ السياسى فى الساحة دون الاستغناء عن الشرطة، ولكن نزول الجيش إلى الشارع سوف يفسر على أنه انقلاب عسكرى على الرئيس المنتخب، ولن يقبل العالم كله الاعتراف بحكومة من هذا النوع حتى لو طالب بها الملايين لأن هناك فرقا حاسماً بين دور المجلس العسكرى بعد الثورة مباشرة وأى دور له فى الأزمة الراهنة. ونحن ندرك أن الصورة التى رسمتها تبعث هى الأخرى على القلق من صعوبة إيجاد مخرج لهذه الحالة ولكن يبدو لى أننا لابد أن نصر على النظرية التقليدية وهى أن الشعب قد انتخب الرئيس وأقر الدستور وأن الرئيس لم يتمكن من العمل بحرية حتى تتكشف انجازاته أو أخطاؤه ولذلك يجب أن تحمى الشرطة والجيش الدولة ومؤسساتها بما فى ذلك مؤسسة الرئاسة من العبث والعدوان عليها وكذلك مقرات الأحزاب والجمعيات والصحف والمبانى العامة والخاصة وليس من حق أحد أن يعتدى على كل هذه الأهداف حتى لو رفع شعار المعارضة لأن الجيش والشرطة فى هذه الحالة يدعمان خيار الشعب المصرى ولا يجوز أن يوسوس الشيطان عندهما فى هذه المساحة المفتعلة بين الشعب والسلطة، ومقابل ذلك على السلطة أن تحسن الأداء حتى لا تحرج الجيش والشرطة بأخطاء لا مبرر لها. نحن نصر على أن هذه الثوابت هى أسس الشرعية الدستورية وتستطيع السلطة أن تكتسب الطبقة الضرورية المكملة لهذه الشرعية وهى الشرعية السياسية أى الفاعلية فى الأداء وتمكين كل الأكفاء من خدمة وطنهم ولا يجوز أن تنفرد قوة سياسية وحدها بحمل هذا العبء أو احتكار هذا الشرف، ولذلك لا مفر من أن تجمع السلطة بين الشرعية الدستورية والشرعية السياسية حتى تنسجم العلاقة بينها وبين الشعب ويتفرغ الجيش والشرطة لمهامهما المقدسة. ولابد أن تبحث السلطة مع عقلاء هذا الوطن عن صيغة تحقق ذلك لأن بناء الوطن ومصر الجديدة مسئولية الجميع، وإذا كانت المعارضة تريد مصلحة الوطن فلتجتهد فى تقديم الصيغة المطلوبة حتى لا تتهم بأنها تسعى إلى اغتصاب السلطة عن طريق تضليل الشارع وتحدى إرادة الأمة التى اختارت الرئيس بقطع النظر عن حبها أو كرهها له، كما يجب على الإعلام أن يدرك أن اسهامه فى البحث عن هذه الصيغة أجدى من اجتهاده فى الاستخفاف بالرئيس ورموز السلطة فتلك سلوكيات تبعده عن المهنية وتمس رموز الوطن الذين يحتلون هذه المناصب العامة، وأن يفرق الإعلام بشجاعة بين النقد البناء وبين السخرية البلهاء التى تنال من مهنية الإعلام وسمعة الإعلاميين.