لم تعان مدن فى مصر كلها كما عانت مدن القناة الثلاث، صحيح أن سيناء قد احتلت ودارت على أرضها معارك كثيرة، لكن أهلها ظلوا مرابطين فى مدنهم الصغيرة قليلة العدد وقبائلهم المنتشرة، واستطاعوا أن يتأقلموا ويتعاملوا مع كل ما مر بهم! لكن مدن القناة كانت أمر آخر ، ففى العصر الحديث فقط، تعرضت لحربين كبيرتين هما حرب 1956 ، و1967 ، تعرضت فيها تلك المدن للضرب والتدمير الكامل ، ومنذ نكسة يونيو وحتى عام 1974 ، وأهل القناة مهجرون وموزعون على المدن المصرية المختلفة! لم تكن عيشتهم مريحة أو يعاملون بما يليق بمن أضيروا بترك مدينتهم وبيوتهم من أجل الوطن ، لكنهم كانوا يعاملون كغرباء فى بلدهم ، ويعيشون عيشة فى منتهى الصعوبة والقسوة! أتذكر جيدا وأنا فى سنوات طفولتى الأولى « نجية » تلك الفتاة المرحة المهاجرة من بور سعيد إلى دلتا مصر ، وكنت وقليل جداً من الصديقات من يقترب منها ويرحب بصداقتها حيث كانت الكثيرات يبتعدن عنها باعتبارها غريبة ، ولا أبالغ إذا ما قلت إن أى خطأ كان يرتكب فى الفصل كانت الأنظار تتجه إلى نجية التى كان عليها دائماً أن تدافع عن نفسها! ما أذكره حدث بالفعل وأتذكره جيدا ، وهو ما جعلنى وغيرى كثيرين نتعاطف مع ما يجرى فى مدن القناة وفى بور سعيد تحديدا ، فالحقيقة أن أهالى مدن القناة قد ظلموا ظلما بيّنا على مدى عقود ، وعانوا أكثر وأضيروا وشردوا من بيوتهم ، ناهيك عما بذلوه من بطولات تقترب من المعجزات ،لصد العدوان عن مدنهم ، وربما ما شهدته السويس فى حرب أكتوبر 1973 هو قمة البطولات ، فعلوا كل هذا حبا فى هذا الوطن الذى أراد أهالى بورسعيد اليوم أن يستقلوا عنه ويعلنوا العصيان المدنى ! فكيف لمدن بذلت دماءها ودفعت خيرة شبابها ، وكان نساؤها وأطفالها قبل رجالها أبطالا فى مواجهة العدو أن تصل اليوم إلى تلك المشاعر المعبأة ضد دولة دفعت دماء شبابها من أجل كرامتها وعزتها ؟! من يهتفون فى شوارع بور سعيد ليسوا بلطجية ، وليسوا فلولا للحزب الوطنى ، لكن لديهم شعور كبير بالظلم لا يعالج بتلك النظرة الاستعلائية من جانب الدولة ، ولا بعطايا متأخرة ، فتلك الكارثة التى جرت وقائعها فى ستاد بورسعيد منذ عامين ، لم تكن وليدة المصادفة ، وليست مجرد ثأر بين مشجعى ناديين ، لكنها مؤامرة لشق هذا الوطن ، وغرس جرح لا يندمل فى أحشائه ، فهذه مؤامرة لم يتمكن أحد حتى الآن من فك غموضها و يجب ألا يكون هناك تقصير يتبعه ظلم، ولا تمحوه الأيام ، ثم يضاف إلى ظلم تراكم عبر عقود لمدينة أبرز صفاتها الكرامة !