استقالة الحبر الأعظم البابا بنديكت السادس عشر بابا الفاتيكان كانت مفاجأة كبيرة لجميع المراقبين، خاصة أنها الأولى من نوعها منذ أكثر من 6 قرون كاملة، وعلى الرغم من احترام الجميع لقرار البابا الذين وصفوه بالشجاع والاستثنائى، فإن إعلان الاستقالة فرض مساحة كبيرة من الغموض وأثار العديد من التساؤلات حول أسباب الاستقالة وتوقيتها، «أكتوبر» فى السطور التالية تحاول إزاحة جزء من هذا الغموض والإجابة عن بعض التساؤلات. الأنبا يوحنا قلته النائب البطريركى للأقباط الكاثوليك يقول: قد يعتقد بعض الناس عندما يستقيل مسئول كبير كرئيس الكنيسة «الكاثوليكية» التى تضم أكثر من مليار ونصف المليار فى العالم وكرئيس لأصغر دولة فى العالم، قد يظن البعض أن فى الاستقالة أموراً سياسية أو مصالح أو ضغوطاً، ولكنى أؤكد وقد كنت فى روما واشتركت فى مؤتمر لاهوتى وشرفت بمقابلة قداسة البابا يوم الجمعة 25 يناير الماضى، وتأكدت من شدة مرضه وظهور شيخوخته حتى أنى قلت للمرافقين معى قد لا نرى البابا مرة ثانية. زهد وتصوف وأضاف قلتة أن شخصية البابا بنديكت لمن لا يعرفها محورها الأساسى تصوفه وزهده، فهو يعشق المسيح عشقاً يشبه عشق بولس الرسول، وهو زاهد إلى أقصى الحدود، ولذلك جاءت الاستقالة ولأنه قديس لا يبغى من الدنيا إلا وجه ربه، ولا يطمع إلى شئ بعد هذا المنصب الرفيع، ولأمانته الشديدة مع نفسه ومع ربه ومع الذين يخدمهم قرر كما قال فى وصيته التى نشرت للعالم وفى خطاب الاستقالة أنه مرتاح الضمير لهذا القرار وعلى الكرادلة أن يجتمعوا لاختيار بابا جديد. ليست استقالة أما الأب رفيق جريش المتحدث الإعلامى باسم الكنيسة القبطية الكاثوليكية فقال إنه لا يفضل إطلاق لفظ استقالة على الأمر، مشيراً إلى أن الشخص الذى يستقيل يعطى المنصب لمن هو أكبر منه، أما الشخص الذى يتخلى عن منصبه فهو يقوم بذلك طواعية، وبملء إرادته وحريته يتخلى عن مهام منصبه لأنه رأى أنه تقدم فى السن ومريض، وبالتالى فالبابا فضل الخير العام عن خيره الخاص، ولا يخرج هذا التصرف إلا من رجل عظيم يتصف بالنبل الراقى ويعطى مثلاً لكل أبناء الكنيسة والقادة أن عليهم أن يقدموا الصالح العام على مصلحتهم الشخصية. حالات مشابهة أما عن الحالات المشابهة فى تاريخ الكنيسة الكاثوليكية قال جريش إن آخر بابا استقال فى الفاتيكان كان ذلك من نحو 600 عام وهو البابا جريجورى الثانى عشر، وأضاف أنه فى الكنيسة الأولى وفى زمن الاضطهاد كان الباباوات يتخلون عن مناصبهم عند القبض عليهم أو عند نفيهم، وفى القانون الكنسى يستطيع البابا أن يتخلى عن منصبه كما أن على الآباء المطارنة الاستقالة عند بلوغ سن 75 عاماً، وهو نفس الحال بالنسبة للآباء الكهنة، والبابا يوحنا بولس الثانى قد كتب فى وصيته أنه فكر فى الاستقالة عندما اشتد عليه المرض. أما بالنسبة للحالات المشابهة فى تاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية داخل مصر قال جريش إنه كانت هناك بعض الحالات مثل البطريرك اسطفانوس الأول الذى استقال فى ثمانينيات القرن الماضى، وسار على دربه البطريرك الكاردينال اسطفانوس الثانى فى اوائل هذا القرن ثم أخيراً البطريرك الكاردينال أنطونيوس نجيب الذى استقال مؤخراً منذ شهر مضى. وأكد جريش أن البابا بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية هو الرئيس الأعلى لها، وهو وريث القديس بطرس الرسول، وهو الذى يجمع كل الكاثوليك فى العالم ويقدر عددهم بحوالى مليار و 500 مليون نسمة منهم نصف مليون فى مصر. شائعات واستبعد جريش أن تكون الاستقالة راجعة إلى قضية «فاتيليكس» وهى القضية التى أدين فيها كبير خدام البابا بافشاء أسرار الفاتيكان وحكم عليه بالسجن لمدة عام ونصف العام، مشيراً إلى أن الاستقالة سببها الرئيسى كبر سن البابا، وكان بنديكت قد عفا عن كبير خدمه المدان فى شهر ديسمبر الماضى. أما عن توقعاته بحدوث تغييرات جذرية فى سياسة الفاتيكان مع البابا القادم أكد جريش أن الفاتيكان مؤسسة عاتية لا تتغير فيها السياسات مع تغيير الباباوات، لأن هناك أسساً مبنية عليها الكنيسة وهى الكتاب المقدس وتعاليم الرسل والأسرار المقدسة والتقليد والقانون الكنسى، وبالتالى فأى بابا جديد قد يكون أسلوبه مختلفاً وتصطبغ الكنيسة بصبغة البابا الجديد، ولكن الأسس واحدة فالبابا لا يعمل وحده بل لديه العديد من الوزارات والمساعدين والكرادلة ومراكز الأبحاث التى تمده بالمعلومات التى تتخذ بناء عليها قراراته بعد مشاورات عديدة مع أصحاب الاختصاص. البابا الجديد أما عن كيفية اختيار البابا الجديد قال جريش تتم عملية اختيار البابا عند خلو المنصب حيث يتم دعوة مجمع الكرادلة فى غضون 15 يوماً تقريبا وفى جو من الصلاة والسرية التامة يقوم أعضاء المجمع بانتخاب أحدهما بشرط ألا يرشح أى كاردينال نفسه، وأضاف يختار البابا الحاصل على ثلثى الأصوات وإذا لم يحصل أحد الكرادلة على هذا الرقم بعد 34 جلسة اقتراع يختار البابا الحاصل على الاغلبيه + 1، مشيراً إلى أن مجمع الكرادلة يظل فى اجتماع دائم حتى يتم اختيار البابا الجديد، ولا يقابل الكرادلة أى شخص من خارج المجمع منذ بداية انعقاده وحتى الانتهاء من الاختيار حيث يقيمون فى فندق قريب من مقر الفاتيكان. أما عن أبرز المرشحين للمنصب أكد جريش أن الكنيسة ومركز البابا ليس مثل الانتخابات السياسية فالكرادلة بعد صلاة مكثفة واختلاء بالنفس أمام الله وضمائرهم يختارون الأنسب للإبحار بسفينة الكنيسة، وأضاف أن تاريخ الكنيسة يعلمنا أن هناك مفاجآت كثيرة تفوق توقعات الإعلام أو المراقبين والدليل حالة ترشيح البابا يوحنا بولس الثانى فقد ظل المنصب قبلها لمدة أكثر من 420 عاماً محصوراً بين الإيطاليين وكانت المفاجأة فى اختيار بابا بولندى للمنصب. وحول وجود اثنين من أبرز المرشحين من الكرادلة الأفارقة، وإمكانية أن يرتقى أحدهما المنصب السامى، أكد جريش أنه كرجل كنسى لا ينجرف وراء مثل هذه الترشيحات لأن هناك 120 كاردينالاً كل منهم مرشح لأن يكون بابا الكنيسة، وأضاف إذا كان لى أن أحلم فإننى أحلم ببابا يكون شاباً بقدر الإمكان حتى يستطيع أن يتكلم لغة الشباب ويجذبهم إلى الله والكنيسة ويواكب الحركة السريعة لعالم اليوم. وحول فرص الكرادلة المصريين والعرب فى الترشيح قال جريش إن هناك كاردينالاً مصرياً هو البطريرك السابق أنطونيوس نجيب ولكن صحته لن تسمح له بالذهاب لمجمع الكرادلة، أما على المستوى العربى فهناك البطريرك الكاردينال بشارة الراعى بطريرك الموارنة والذى له حق الترشيح والانتخاب. أما عن صحة ما يتردد من أن هناك دوراً للبابا بنديكت وتأثيراً محورياً فى اختيار خليفته على الرغم من الإعلان أنه لن يشارك فى مجمع الكرادلة الذى سيقوم بالاختيار شدد جريش على أن البابا عندما يتخلى عن كرسيه لا يتدخل مطلقاً فى اختيار خليفته. *** البابا فى سطور * ولد جوزيف راتزنجر فى 16 أبريل سنة 1927 لعائلة مزارعين من ولاية بافاريا الألمانية ولكن والده كان يعمل شرطياً وكان ثالث الأبناء مع شقيق أكبر أصبح كاهنا فيما بعد وشقيقة لم تتزوج. * خلال الحرب العالمية الثانية انضم مجبراً إلى تنظيم «شباب هتلر» حيث كان والده يرفض النازية باعتبارها ضد الدين، وجند فى سلاح الدفاع الجوى فى ميونيخ إلا أنه غادر الجيش سريعاً بسبب مرضه. * فى عام 1945 التحق بكلية القديس مايكل فى ميونيخ حيث درس اللاهوت والفلسفة وتخرج فيها فى عام 1951 وأصبح كاهنا، وبعدها نال شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها عن دراسة فى الفكر اللاهوتى للقديس اغسطينوس. * فى مارس 1971 عين رئيساً لأساقفة ميونيخ على يد البابا بولس السادس، وبعدها بأشهر قليلة وبالتحديد فى يونيو من نفس العام منحه البابا بولس رتبة الكاردينال التى تمكن حاملها من الترشح وانتخاب البابا. * له العديد من المؤلفات فى اللاهوت والعقيدة مما جعله واحداً من أكبر اللاهوتيين فى الكنيسة الكاثوليكية. * فى عام 1981 استدعاه البابا يوحنا بولس الثانى حيث عينه رئيساً لمجمع العقيدة والإيمان فى الفاتيكان، وهى الهيئة المنوط بها مراقبة نقاء العقيدة الكاثوليكية، وطوال أكثر من 24 عاماً كان الكاردينال راتزنجر هو المقرب من البابا يوحنا، والرجل القوى فى الفاتيكان الذى ينظر إليه على أنه الخليفة المنتظر على الرغم من أنه يحسب على التيار المحافظ فى الكنيسة. * وبالفعل كان أقوى المرشحين بعد نياحة البابا يوحنا بولس فى عام 2005، حيث تم انتخابه فى أبريل من نفس العام خلفا للراحل العظيم، وكان وقتها يبلغ من العمر 78 عاماً مما يعد احد أكبر الباباوات الجدد فى تاريخ الفاتيكان عند انتخابه حيث اختار لنفسه اسم «بنديكت السادس عشر».