من الممكن أن يتوه المرء اليوم بين فيض الأخبار القادمة من سوريا، فمن ناحية، نسمع عن عدوان غاشم تشنه القوات الحكومية السورية على حلب، أكبر المدن السورية ونجد الميديا الغربية مشغولة بالإعلان عن عدد ضخم من الضحايا من بين (السكان المدنيين) الساعين إلى الحرية، ومن ناحية أخرى، نسمع عن استقالات مسئولين سياسيين وعسكريين وانضامهم حتى إلى صفوت المعارضة. وكل هذا يحدث على خليفة الاجتماعات المعتادة لمن يطلقون على أنفسهم (أصدقاء سوريا) وأفلام وتقارير، بل ربما كتب تدين نظام الأسد ومعه روسيا والصين اللتين تقفان حجر عثرة أمام قيام نظام (ديمقراطى) فى سوريا سيؤدى حتمًا إلى نهضة ورخاء هذا البلد. والشىء المستغرب فى هذه القصة هو الحرب الإعلامية إلى تشنها الدول الغربية، فالملاحظ مثلًا فى الحالة الليبية أن العناصر الرئيسية التى لعبت على المكشوف لإسقاط معمر القذافى تمثلت فى دول غربية مثل فرنسا فى موقف إشرافى شكلى، والدول العربية الموالية للأمريكان تتحرك فى مقدمة المشهد، فنجد رئيس الوزراء القطرى مثلًا يدعو العرب للتفكير جديًا فى إرسال قوات عسكرية إلى سوريا. وفى ظل غياب الإجماع فى مجلس الأمن وامتناع حلف شمال الأطلنطى (الناتو) عن التدخل عسكريًا فى سوريا على نحو ما فعل فى لبيبا، تتطلع الأنظار إلى الجامعة العربية للقيام بهذه المهمة، وللجامعة تاريخ فى هذا الصدد أقربه إلى الأذهان شبهًَا بالحالة السورية هو قوات الردع العربية فى المرحلة الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، لكن مع الفارق، فقوات الردع العربية كانت للحد من أنشطة المقاومة الفلسطينية والقوى اللبنانية المتحالفة معها لمصلحة الحكومة اللبنانية المدعومة من سوريا فى ذلك الوقت، بينما ستعمل أية قوات عربية فى سوريا للحد من نشاط جيش النظام تجاه المناطق التى يسيطر عليها من يطلقون على أنفسهم عناصر الجيش الحر. وهكذا، نجد أن القوة الرئيسية فى حلف الناتو قد وجدت الحل فى إيهام المواطن الغربى بأن ما يحدث فى سوريا ليس قلبًا للنظام غير المحبب من الغرب، إنما الشعب السورى يحارب من أجل حقوقه ضد حكومة (شيطانية)، والشىء المثير أن نفس هذا المواطن سوف يصدق ما يقال، لماذا؟ لأن ماكينة الرعاية الغربية متطورة للغاية. والمعروف أن مفهوم التفوق الدعائى الإعلامى كما تحدده الاستراتيجية العسكرية الأمريكية (رؤية مشتركة لعام 2020) هو مفتاح النجاح فى أية حرب. وهو بالمناسبة نفس التفوق الدعائى الإعلامى الذى برز بوضوح فى حالة كل من تونس ومصر وليبيا. والآن، هناك صراع فى سوريا وسوف ينتقل بدوره إلى إيران، لماذا كل هذا؟ الإجابة ببساطة أنه أسلوب الحياة الأمريكية أو ما يسمى ب (النموذج الغربى للديمقراطية) وهو مفروض على العالم العربى فىهذه المرحلة وهى بالمناسبة المرحلة الأولى فى عملية شاملة. وكل هذا يتضاءل، مثلما يقول الروس، أمام المهمة الرئيسية للعملية وهى تدمير وحدة وسلامة أراضى كل من روسيا والصين، القوتين الرئيسيتين المعارضتين للولات المتحدة. فالمغموض الذى يحيط بمستقبل سوريا فى حال سقوط نظام الأسد يخيف الكثيرين ومنهم روسيا والصين، اللتين تخشيان من سيطرة الإسلاميين على الحكم مثلما حدث فى تونس ومصر وليبيا والمغرب، وبالتالى فإن مناطق عديدة فى القوفاز وآسيا الوسطى حيث غالبية الشعوب إسلامية وتركمانية قد تتحرك بفعل انتصار الإسلام السياسى، وقد تفتح ملفات كثيرة نائمة، وربما يعود الملف الشيشانى نفسه إلى الواجهة وهو ما يقض مضاجع الفيدرالية الروسية التى تضم 20% من المسلمين إضافة إلى أقليات أخرى ترغب فى الانفصال. لقد شعرت روسيا بأنها خدعت فى الملف الليبى بعد أن وافقت على القرارين 1970 و 1973 ولم يكلف حلف الناتو نفسه عناء البحث معها فى مستقبل هذا البلد. والآن، ليس سرًا أن تجد كلًا من روسيا والصين نفسيهما فى مواجهة مشاكل لا حصر لها بفعل الآلة الإعلامية الغربية، سواء فى شمال القوقاز أو فى إقليم تشنجيانج من قبل أقلية الإيجور المسلمة. لم يعد سرًا أن ماكينة الدعاية الغربية يمكن أن تعمل على تفسخ الفيدالية الروسية انتقامًا لموقفها من الأزمة السورية بزيادة كيانات الحكم الذاتى داخلها سواء فى إقليم كاليننجراد أو شمال القوقاز أو فى إقليم الفولجا أو سيبيريا أو الشرق الأقصى.. إلخ. لم يعد سرًا أن تركز ماكينة الدعاية الأمريكية فى المرحلة القادمة على ما تسميه بالموقف الروسى غير البنّاء فيما يتعلق بنزاع الأراضى مع اليابان حول جزر الكوريل الجنوبية. لكن الغرب ينسى أو يتناسى أن فلاديمير بوتين ليس يلتسين وأن سوريا ليست كوسوفو أو العراق. والموقف الروسى واضح وضوح الشمس فالمسألة ليست فى بعض المكاسب هنا أو هناك ولا فى حماية حليف تقليدى مهم. فقد أعلن وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف صراحة أن بشار الأسد ليس حليفًا ولا صديقًا لروسيا.. روسيا فقط تريد أن تطمئن شأنها شأن دول أخرى لما بعد سقوط بشار الأسد. ولا شىء يطمئنها سوى انتقال سلمى للسلطة فى سوريا تدريجيًا وتحت رعايتها أو بمشاركتها على الأقل. ولذلك، يؤكد بوتين ووزير خارجيته لافروف مرارًا وتكرارًا أن المشاكل فى سوريا يمكن حلها سلميًا وبالجلوس حول طاولة المفاوضات وليس من خلال السلاح والتدخل فى الشئون الداخلية وسيادة الدولة.