كأن مصر أصبحت تعيش داخل دائرة مفرغة.. كأنها تدور وتلف لتعود من حيث بدأت.. مليونيات يعقبها مليونيات ومسيرات يتبعها مسيرات.. ومظاهرات لا تهدأ تتخذ من أفراد الشرطة أعداء ومن المبانى والمنشآت أهدافا. ولم يعد أحد يعرف متى وكيف تخرج مصر من هذه الحالة العبثية.. كيف تخرج من الدائرة المفرغة؟! ويزيد الطين بلة كما يقولون إن مصر أصبحت «مصرين».. مصر التيار الإسلامى ومصر التيار المعارض.. وكان ممكن أن تتسع مصر وتستوعب خلافات الاثنين واختلافات وجهات نظر كل منهما لكن المصيبة أن كل نصف يسعى للقضاء على النصف الآخر. مستحيل (!!!) و كأن مصر لا تعرف العمل والأعمال والإنتاج.. كأنها تعيش فى المليونيات وكأنها لا تصنع إلا المظاهرات والاحتجاجات والعنف. يقترب الأسبوع من نهايته فنجد من يدعو لمليونية جديدة.. مليونية الكرامة.. مليونية الرحيل.. مليونية الخلاص.. مليونية الكارت الأحمر.. الاسم لا يهم.. المهم أن يحتشد الناس يوم الجمعة فى ميدان التحرير وفى باقى ميادين التحرير فى مختلف محافظات مصر.. ميدان الأربعين فى السويس.. ميدان القائد إبراهيم فى الإسكندرية.. إلى آخر هذه الميادين. وعادة ما تبدأ هذه المليونيات سلمية.. هتافات وشعارات.. وعادة أيضاً ما تفقد هذه السلمية فى المساء.. فتبدأ مجموعات فى الانفعال وتتحرك من ميدان التحرير وتتوجه إلى أماكن تصطدم فيها بالشرطة.. وتبدأ حفلات العنف والفوضى ويتساقط القتلى والجرحى.. ويستمر هذا العبث حتى مطلع الفجر! فى الأيام التالية تنشغل مصر بآثار المليونية ونتائجها.. مسيرات تحتج على سقوط الشهداء.. مظاهرات تندد بعنف الشرطة وقسوتها فى التعامل مع المتظاهرين.. وجنازات تتحول إلى مظاهرات لشهداء المليونيات.. وعادة ما يتساقط شهداء جدد! ويركب الإعلام المشهد خاصة القنوات الفضائية.. فتبدأ القنوات المنتمية للتيار المعارض فى التحليل والتنديد وإطلاق نيران مدفعيتها الثقيلة على التيار الإسلامى وعلى جماعة الإخوان وعلى الحكومة وعلى الرئيس.. بينما تغرق القنوات الموالية والمؤيدة للتيار الإسلامى فى الدفاع عن التيار والجماعة والحكومة والرئيس.. فتبرر وتبحث عن الأعذار! وعندما ينتصف الأسبوع يبدأ كل فريق فى إعادة ترتيب أوراقه.. فتجتمع الأحزاب والجبهات.. المعارضة والموالية.. وتخرج البيانات والتصريحات وينخرط الجميع فى لعبة المناورات السياسية.. وفى بعض الأحيان ينتج عن هذه المناورات أحداث عنف جديدة. ويحتدم الصراع حول القضايا الخلافية الأساسية.. سقوط النظام.. أخونة الدولة.. حكومة إنقاذ وطنى.. قانون الانتخابات.. إسقاط الدستور. ويقترب الأسبوع من نهايته.. ويتم الإعلان عن مليونية جديدة.. تنشغل القوى المعارضة بالتجهيز لها وتنشغل القوى الموالية بالرد عليها.. ويأتى يوم الجمعة.. ويحتشد المتظاهرون فى ميدان التحرير وفى باقى ميادين التحرير. ويبدأ كل شىء من جديد! ويتصور كل فريق أنه اقترب من هزيمة خصمه.. بالضربة القاضية! مستحيل (!!!) ??? يبدو غريبا أن كل فريق يلقى باللوم على الفريق الآخر ويحمله مسئولية الخطأ مع أن الحقيقة أن الفريقين يقترفان الأخطاء.. والخطايا! المعارضة أو قيادات المعارضة لا تبذل جهدا حقيقيا من أجل إيقاف العنف الذى أصبح سمة من سمات الاحتجاج والتظاهر.. والذى يمكن أن يتحول إلى كارثة. فى نفس الوقت فإن مطالب المعارضة "شطحت" إلى حد المطالبة بإسقاط النظام وإسقاط الرئيس.. أو على الأقل إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. الانتخابات الرئاسية المبكرة جرت بالفعل فى بعض الدول الديمقراطية لكنها على الأقل مارست الديمقراطية سنوات كافية لاستيعاب مسألة تداول السلطة.. أما فى مصر وفى مثل هذا المناخ فإن إسقاط الرئيس بالمظاهرات أو حتى بالانتخابات المبكرة معناه إسقاط أى رئيس قادم! فإذا تحدثنا عن التيار الإسلامى وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها الحزب الحاكم فإن أبرز أخطائها وخطاياها هو تجاهل تيار المعارضة والتعامل معه باعتباره كما مهملا غير قادر على التأثير.. فى نفس الوقت فإن هذا التيار يتعامل مع الخلاف السياسى على أنه خلاف دينى.. وأن الذين يعارضون التيار الإسلامى إنما يعارضون الإسلام! وتبرز أهم هذه الأخطاء فى مسألة التمكين أو ما يطلق عليه مصطلح "أخونة الدولة" وترجمته الهيمنة والاستيلاء على مفاصل الدولة. صحيح أن جماعة الإخوان تنفى بشدة أنها تسعى لذلك لكننا الآن نسمع من أكبر حلفاء الإخوان وهم الدعوة السلفية وتحديدا حزب النور.. نفس الاتهامات للجماعة.. الأخونة والتمكين والهيمنة! الفريقان يرتكبان الأخطاء والخطايا كما ذكرت لكن السؤال الأساسى هو: هل فى وسع أى فريق منهما أن يهزم الآخر.. بالضربة القاضية؟! الحقيقة أن الفريقين غير قادرين على هزيمة الآخر لا بالضربة القاضية ولا بغيرها.. مصر وحدها هى التى يمكن أن يهزمها الفريقان! ??? إذا استمرت مصر تعيش هذه الحالة العبثية.. حالة المظاهرات والمليونيات والعنف فنحن نسير فى طريق الفوضى المدمرة.. فالشرطة لن يكون فى وسعها أن تتحمل هذا العرض المستمر من العنف والحجارة والمولوتوف.. ولن يستطيع التيار الإسلامى أو جماعة الإخوان أن تمنع هذه المظاهرات والمليونيات والعنف.. سواء بالقانون أو بغير القانون.. بل إن الملاحظ أن هذه المظاهرات والمليونيات تتزايد. فى نفس الوقت فإن التيار المعارض لن يستطيع أن يسقط النظام ولا الرئيس لأن التيار الإسلامى.. سواء الإخوان أو غيرهم.. لن يسمحوا بذلك. وفى الحالتين فإن استمرار كل فريق على موقفه معناه أنه لن توجد دولة.. يحكمها الإخوان أو التيار الإسلامى.. وتسعى فيها المعارضة للوصول للحكم.. لن توجد دولة.. لأن الفوضى ستدمر مصر وتأكلها. الغريب أن الجميع أصبح يدرك خطورة الوضع الاقتصادى الذى تمر به البلاد حاليا.. ومع ذلك لا يزال كل فريق يسعى لهزيمة الفريق الآخر.. بالضربة القاضية! ??? مستحيل أن يقدر فريق على هزيمة الفريق الآخر.. مستحيل أن يقدر فريق على إقصاء الفريق الآخر.. إما أن نعيش معا.. وإما أن نموت معا. التوافق هو الحل يا أصحاب العقول.. إن كانت لديكم عقول؟!