بالأمس فقط كان احتفالنا بمرور عامين على نجاح ثورتنا المصرية الباهرة.. ولا شك أن هذا النجاح كان أملًا راودنا جميعًا وبلا استثناء، بل كان حلما ظنناه بعض الوقت بعيد المنال حتى جاءت إرادة الله محققة هذا الأمل وذلك الحلم.. وفى غمرة ابتهاجنا نسينا بعض الفئات من شعبنا الطيب قد انقلبت معيشتهم وبلا مبالغة ما يتجاوز حدود الفقر الذى كانوا يعانونه قبل الثورة ليصل إلى الضنك بعينه بعدها وهؤلاء كان المصريون يطلقون عليهم وصفا عبقريا وهو «الأرزقية» أى الذين يعتمدون فى أرزاقهم يوما بيوم ويفهم من هذه التسمية البليغة أنهم إذا عزَّ عليهم العمل يوما لم يستطيعوا إطعام أنفسهم ومن يعولون. أعمال هؤلاء الأرزقية كثيرة وذات أهمية قصوى فى تسيير المتطلبات الحياتية لجماهير الشعب ومنها معظم المهن الحرفية كطوائف المعمار والسباكة وغيرهما ممن تأثرت حياتهم بالاضطرابات والاحتجاجات التى أعقبت الثورة وتوقف بسببها أيضًا «دولاب العمل» بأغلب قطاعات الدولة حتى إن موظفى الدولة قد نالهم نصيب من هذا التأثير السلبى حيث ارتفعت الأسعار بشكل فاق استطاعتهم وقدراتهم الشرائية من خلال مرتباتهم الثابتة.. وكل هذه المتغيرات الطارئة وغير المتوقعة بعد ثورة فتحت لنا آفاق التفاؤل فى مستقبل أكثر إشراقا بعد ماض ازدحم بصنوف القهر والاستبداد.. وهنا كانت الصدمة بحجم ما آلت إليه أحوال الناس مما جعل بعضهم يتجاوز حدود التفاؤل إلى تشاؤم يترجم الآن بشىء من القنوط والرغبة فى عودة العجلة إلى الخلف ظنا منهم أنهم كانوا أحسن حالا قبل التحولات التى أحدثتها الثورة، حيث تأثرت بها سلبا حياتهم ومعيشتهم. qqq ومن أكثر الفئات تضررا تأتى فئة الباعة الجائلين التى تضاعفت أعدادهم مما طرأ على المجتمع من بطالة وأصبحت مهنة البائع المتجول هى مهنة من لا مهنة له.. وقد يكون ذلك اضطرارا تستلزمه الضرورة القصوى فى البحث عن مصدر رزق شريف بعد أن فقد معظم الحرفيين مصدر أرزاقهم.. ولا شك أن هذه الظاهرة الاجتماعية الطارئة على المجتمع المصرى تحمل فى طياتها أبعادا كثيرة منها البعد الإنسانى الذى يشفع ما يمكن أن يحدث من تجاوزات استشرت بشكل غير مسبوق ومن أهمها أن هؤلاء الباعة قد جعلوا من الأرصفة فى سائر الشوارع وحتى الرئيسية منها وليس هذا فقط، بل امتدت التجاوزات إلى الميادين وأشهرها ميدان التحرير الذى حدثت به تجاوزات مؤسفة بين المعتصمين والباعة الجائلين.. ويكفى أن جولة فى قلب القاهرة خاصة وسط المدينة، حيث أصبحت أشبه بالمحال التجارية التى استقرت لتسد الشوارع الرئيسية معيقة حركة السير للمشاة والمركبات على اختلاف أنواعها مما يسبب ضيقا لدى المارة ركابا ومرتجلين ليضافوا إلى كوكبة الرافضين والضائقين ذرعا وصدرا من هذه الفوضى التى هى الأبعد عما كان متوقعا بعد الثورة المصرية الرائعة. qqq ورغم كل ذلك فلا بد أن يجد المسئولون حلا ناجعا لهذه الظاهرة السلبية، وذلك فى الوقت الذى يضمن مصدر الرزق لهؤلاء الباعة صونا لكرامتهم وحائلا دون أن يتحولوا إلى قنبلة موقوتة إذا ما انفجرت فلن يسلم منها أحد - لا قدر الله - وللإنصاف فإن الباعة الجائلين ليست بدعة هذه الأيام، وإنما هى مهنة قديمة لها تاريخ - إن صح التعبير - وقد شاعت فى الأزمان الغابرة والحاضرة على حد سواء ولا أبالغ إذا قلت إن فكرة الأسواق والتى تعددت أسماؤها على أيام الأسبوع فى الريف والحضر على حد سواء فرأينا القرى فى سائر المحافظات تختار يوما ليكون سوقا تجارية فى أرص فضاء بالقرية، حيث يمارس الباعة الجائلون عرض بضاعتهم على اختلاف أنواعها دون أن يزاحم أحدهم الآخر بينما تسير حركة الحياة بعيدا عن حرم هذه الأسواق سيرها الطبيعى.. وليست القرى فقط، وإنما بعض المدن الكبيرة والشهيرة مازالت حتى اليوم تحتفظ بسوقها الأسبوعى وقد شاهدت بنفسى أسواقا بطنطا ودمنهور وأعتقد أن مدنا أخرى تماثلها فى هذا النهج.. ولهذا كله يجب أن تكون الأسواق الثابتة تصور الحل الأمثل لهذه المعضلة الاجتماعية التى تهدد أمننا القومى وهو التصور الذى يجب تنفيذه برعاية أمنية تقى هؤلاء الباعة حملات شرطة المرافق والبلدية التى تداهم بشكل يفتقر إلى الإنسانية واحترام آدميتهم فضلا عما تتكبده هذه الفئة الكادحة من خسارة جراء إهدار بضائعهم وسلعهم البسيطة بتحفظ السلطات عليها وما يتبع ذلك من إجراءات مضنية لهم وكأنهم لم يكفهم ما يعانونه من فقر وعوز. qqq ومن المؤكد أن هذه الأسواق البسيطة هى المنفذ الرئيسى للبسطاء من أبناء الشعب المصرى وغالبيتهم من هذه الطبقة، حيث يجدون حاجاتهم الضرورية وبأسعار مناسبة إذا ما قورنت أسعار أصحاب المحال الكبرى التى يبالغ معظمها فى تسعير بضائعهم.. وهنا نطلق عليهم الباعة الجائرين، حيث جاروا على كل قيم التكافل التى تدعمها شرائع كل الأديان وجور هؤلاء الجائرين لا يقل جرما عما يفعله الباعة الجائلون الذين لم يرتكبوا تجاوزاتهم وأفعالهم المرفوضة طواعية أو بإرادتهم، ولكنها الحاجة إلى لقمة عيش لهم ولمن يعولون.. وهنا تجدر الإشارة وإن شئنا المناشدة للمسئولين أن يجدوا حلا سريعا ومنصفا لهؤلاء البسطاء حتى لا يتحولوا هم أيضًا إلى باعة جائرين، ولكن أكثر إجرامًا وفحشا حيث يمكن أن نجد منهم من يبيع الوهم فى عمليات نصب يضار من جرائها كل طوائف الشعب، وهذا إن لم يختصر بعضهم المسافات ويقومون بجرائم السرقة بالإكراه أو الاغتصاب وما اشبه من الجرائم التى تقض مضجع الكثيرين وتهدد أمنهم. qqq قد ينظر البعض إلى الحلول المقترحة بنظرة مثالية تستعصى على التحقيق فى الواقع، ولكنها يمكن أن تخرج إلى النور إذا ما استشعر المسئولون خطورة الآثار السلبية المترتبة على تجاهل الباعة الجائلين والأهم من ذلك هو إحساس هؤلاء الباعة بأنهم فئة ملفوظة من المجتمع ودلالتهم فى ذلك هو الهجوم المستمر والانتقاد لسلوكهم دون البحث عن حلول تضع فى الاعتبار المأزق المظلم الذى يحيونه فى ظل ما طرأ على المجتمع من افتقاد فرص العمل بعد الثورة.