24 شهرا إلا أيام قليلة مرت على ثورة 25 يناير 2011..حان وقت المراجعة،والبحث الجاد على إجابات لأسئلة تفسر ما سبق الحدث وما تلاه لنتجاوز - من خلال تلك الإجابات - الماضى ونتحسس موضع أقدامنا فى الحاضر فنفك أسر اللحظة الراهنة ومراوحة مكاننا ونخطو إلى المستقبل الذى لن ينتظرنا طويلاً. الأمن هو كلمة السر وشطر المعادلة الربانية للإيمان والحياة المطمئنة: « فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» صدق الله العظيم. وقول رب العزة سبحانه لم يردف الجريمة علىالأمن ولكن أردف الصفة المغايرة وهى الخوف، والخوف شعور وكذا الأمن شعور وإحساس.. فكيف نعيد إحساس الأمن بداخلنا بعد أن اهتز كثيرا عقب أحداث الثورة ولايزال؟! (1) واحد من أهل الذكر وإذا كانت المراجعة كما أسلفنا مطلوبة ففى الملف الأمنى تحديدا هى فرض وليست نافلة..فجانب من الممارسات الجائرة والمستهجنة والمرفوضة التى التصقت بهذا الملف هى التى قادت الشباب والشابات والكهول والشيوخ للخروج الغاضب إلى الشوارع والميادين يوم 25 يناير قبل عامين وفى الأيام والليالى التى تلت 25يناير، وماوقع فى هذه الأثناء من أحداث انفلات أمنى وفوضى عشناها جميعاً ونتج عنها انحسار إحساسنا بالأمن والآن وبعد مرور كل هذه المدة على الثورة لماذا لم يغادر المصريين إحساس الخوف ونقص الأمن؟! لماذا لم تتحرك الدولة ومسئولوها نحو جهاز الشرطة لترمم بداخله الثغرات التى نتجت عنها الأحداث التى أدت لهذا الرفض العنيف لأفراده الذى ظهر فى أحداث الثورة؟! وكيف نعيد الإحساس بالأمن العام؟! حملت كل هذه الأسئلة وتوجهت بها لواحد من أهل الذكر هو لواء الشرطة السابق والخبير الأمنى الحالى عبد الرحيم سيد أحمد وجلست إليه فى حوار امتد لعدة ساعات،عند نهايته وقبل المغادرة زودنى بدراسة مكتوبة أنجزها عقب الثورة مباشرة تحوى أيضاً الإجابة عن جانب آخر من تساؤلاتنا. (2) الجانى كان ضحية أفراد الداخلية أنفسهم كانوا ضحية للنظام السابق، هذه كانت المعلومة الأولى التى حرص اللواء عبدالرحيم على إعلامى بها وعند هذه المعلومة والملحوظة انطلق الحوار.. سألته كيف؟! فأفاض بما يشبه الأسى والأسف وانطلق يقول: فى عهد وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى سادت داخل الوزارة حالة من التجبر ضد الضباط وكان يتم أخذ الأمور بالشبهات دون تيقن أو تحقيقات موضوعية، وسادت أو زادت الوساطات وعن طريقها كان يتم تصعيد غير الأكفاء ليشغلوا أماكن يتبوأون مكانات لا يحق لهم أن يكونوا فيها. وعلى مستوى الماديات كانت قيادات الوزارة تحصل على الرواتب والمكافآت فى حين يُحرم منها صغار الضباط،يكفى أن تعرف أن الضابط على رتبة الملازم يحصل شهرياً على 400أو 500جنيه بينما يصل مايحصل عليه الوزير ومساعديه إلى ملايين الجنيهات، ومثال آخر على الظلم فى هذا الجانب كنت تجد ضابطاً على رتبة المقدم مثلاً يحصل على مكافأة شهرية ألف جنيه فى حين يحصل نظير له فى الرتبة من ذوى الحظوة على 12 أو 15 ضعفاً على سبيل المكافأة.. وأن يحدث تجاوزات صارخة بهذا المستوى بين القيادات فهذا معناه أن إشارات ترسل للأفراد والمخبرين بقبول الرشوة والسعى إليها..(!!) وفى بعض مواقع العمل بالوزارة كان غالباً ما يعمل ضابط أو ضابطان أو ثلاثة بينما يتفرغ الباقون لأعمال التشهيلات، ويتم نقل الضباط إلى مواقع العمل والحصول على المنافع المادية بالواسطة.. هذه الممارسات أصابت رجال الداخلية بحالة من الإحباط وسادت بينهم روح غريبة بسبب حبيب العادلى وسياساته.. وتوقف لواء الشرطة السابق عبد الرحيم سيد أحمد فجأة عن الكلام للحظات قبل أن ينطق بكلمات أشبه بالبيان الثورى قال فيها: « لذلك تقدمت لحبيب العادلى باستقالة مسببة قلت فيها أتقدم باستقالتى قبل أن أفقد انتمائى لوطنى الذى أخلصت له طيلة حياتى». .. وعند هذه الجملة الأخيرة يمكن أن ندون على الهامش الملحوظة التالية: رجل الشرطة المتهم فىأحداث 25يناير كان نفسه ضحية من ضحايا النظام السابق. (3) كانت « حبُلى» واستدركت أقول للواء عبد الرحيم: ولكن كون رجل الشرطة نفسه ضحية للنظام فلا يعفيه أو يسقط عنه التهم التى ارتبطت بأدائه قبل الثورة.. نعم.. أمنّ الخبير الأمنى على كلامى ومضى يضيف: قبل الثورة بعام على الأقل كان هناك رأى عام فى مصر مقتنع تماماً أن معظم المسئولين فاسدون وأن فسادهم مرتبط بالحصول على منافع شخصية وتكديس أرصدة مالية وممتلكات، والفضل فى صناعة هذا الرأى العام يعود للإعلام المرئى والصحافة اللذين استطاعا أن يكشفا مظاهر الفساد حتى لصق فى ذهن الشعب رفض النظام ورفض التوريث، وأصبح لدى الأفراد هناك حالة من التحدى والاستعداد للثورة التى اختمرت تقريباً بداخلهم. وحينما جاءت الفرصة فى 25يناير2011 وخرج الشباب يعبرون عن غضبهم ورفضهم فى مظاهرة سلمية بيضاء تصدت لهم أجهزة الأمن بالقهر فاكتشف الشعب المصرى الطريق إلى الثورة عن طريق الاعتراض والخروج إلى الشوارع. ما ذكرته وصف مبتسر وحقيقة مبتورة ياسيادة اللواء.. أليس كذلك؟! قلت له فأجاب على الفور: الحقيقة أن جهاز الشرطة له مهام ومن أهمها منع الجريمة قبل وقوعها وضبط الجناة ثم حماية النظام والشرعية القائمة على إنتخابات وليس للجهاز أو أفراده وجهة نظر سياسية. ولأن النظام السابق كان فاسداً وتشوبه نقائص عدة ويتجبر على الشعب فقد اعتبر الشعب أن جهاز الشرطة جزء من هذا النظام وجزء من منظومة النظام الفاسد الحاكم لذلك كانت المواجهة بين الشعب وجهاز الشرطة. ثانياً: جهاز الشرطة يتم تكليفه بمهام محددة مثل حفظ الأمن والنظام، وهناك تشريعات قائمة ينفذها مثل قانون عدم التجمهر الذى يعتبر أن تجمع أكثر من 5 أفراد جريمة يعاقب عليها القانون، هناك ايضاً قانون الطوارئ الذى كان مطبقاً إبان الوقت الذى نتحدث عنه أضف إلى ذلك كل ما سبق الاوامر المباشرة الصادرة من القيادات العليا من وزارة الداخلية والتى بدورها صدرت لهم من قيادات أعلى فى الدولة، وهدفها منع واحتواء والسيطرة على المظاهرات. ومن الثابت أن القانون يجيز لرجال الشرطة استخدام القوة المتدرجة لتنفيذ المهام الأمنية.. ويتوقف اللواء عبد الرحيم عند العبارة الأخيرة متسائلا وشارحاً: ماهى القوة المتدرجة؟! القوة المتدرجة فى التعامل مع أفراد الشعب فى الحالات المثيلة لما حدث فى25 يناير2011 تبدأ بإنذار الأفراد وفى حالة عدم الاستجابة استخدام العصى او الدونك الكهربائى (العصى الكهربائية) ثم فى مرحلة أخرى اللجوء لاستخدام الغازات المسيلة للدموع بأنواعها، ثم فى مرحلة أخيرة استخدام أسلحة الخرطوش بضربها على الأرض لإحداث ما يعرف بال « سيكترما» وهى الخدوش البسيطة غير المؤثرة ثم آخر الأمر الأسلحة النارية بتوجيهها نحو الأقدام لإحداث إصابات غير قاتلة، وهذه فى حالة الدفاع عن المنشآت العامة ومؤسسات الدولة ومرافقها والبنى التحتية وكلها من الأملاك العامة. هذه هى تحركات الشرطة ومهامها بشرط أن تكون رد فعل للحدث ومناسبة له ولا يجوز على الإطلاق استخدام سلاح الرش أو الذخيرة الحية ضد متظاهر يستخدم يده أو يلق طوباً على القوات . علينا أيضاً أن نتذكر أن أجهزة الشرطة تعىأنها تتعامل مع مواطن يمثل الأب والأخ والقريب.. مواطن مصرى ليس عدوا للوطن وعليه يكون التعامل معه بإحداث أقل الاضرار الممكنة . وفى أحداث 25 يناير تم تكليف جهاز الشرطة بفض المظاهرات والسيطرة عليها واحتوائها وهذا ما حدث فى البداية إلا أن التدفق الشعبى وارتفاع الوتيرة الثورية أديا إلى سقوط معادلة التوازن بين الجماهير وإمكانيات جهاز الشرطة وبالتالى تنفيذ أوامر التعامل الصادرة من قيادات الشرطة متمثلة فى أعلى مراتبها وهو الوزير الذى بدوره يتلق أوامره من القيادة السياسية بالتنسيق مع أجهزة أخرى فى الدولة تسعى جميعها لمحاولة السيطرة على الموقف. والتجاوزات التى حدثت فى الشوارع والميادين مع المتظاهرين كان مرجعها تصرفات شخصية لبعض من أفراد الشرطة وحالات ضرورة مثل الدفاع عن النفس أو شدة الخوف والهلع الذى أصابهم نتيجة الحشود الضخمة غير الموقعة هذا ما حدث للأفراد، أما الأقسام والمنشآت الشرطية والسجون فأساس عمل رجل الشرطة هو الدفاع عنها ضد أعمال التخريب والسيطرة عليها وضمان سلامتها باعتبارها منشآت عامة، وأفراد الشرطة القائمين على حراسة هذه الأماكن مسلحون بما يكفى لأداء هذه المهمة فى الظروف العادية. وما قام به الضباط والأفراد للدفاع عن أنفسهم أو المنشآت التى يعملون بها هو بمثابة دفاع شرعى عن النفس والمنشآة المكلفين بحراستها. ولا ننسى أن بعض الخارجين عن القانون من ذوى السوابق والشبهات استغلوا أحداث الثورة للانتقام ولديهم من الإحساس بالقهر والظلم تجاه أجهزة الشرطة والتعاملات السابقة للجهاز مادفعهم للتحدى واستغلال الفرصة وبدأوا يهاجمون الأقسام ويضربون الضباط والأفراد والأمناء باستخدام الشوم والعصى والأسلحة البيضاء وكل ما تصل إليه أيديهم من سلاح. (4) الممارسات الكلام يردنا مرة أخرى للممارسات السابقة على الثورة والسؤال: هل كانت هناك مبالغات أو تزوير فى كليبات التعذيب التى انتشرت قبل الثورة؟! أجاب اللواء عبد الرحيم: قبل الثورة كانت هناك ممارسات ضد حقوق الإنسان - لا شك - لكن لاحظ أن هناك دافعًا يعمل على أساسه جهاز الشرطة وهو مبدأ الردع العام بمعنى إيقاع الخشية فى قلب المجرم لمنعه من ارتكاب الجريمة ودفعه للاعتراف بسهولة عن أدلة الاتهام وضبط الجناة المعاونين والأدوات وتقديمهم للعدالة وأحيانًا كانت تحدث تجاوزات نتيجة لعدم خبرة أو صغر سن الضباط وهو ما يخالف العلوم الشرطية الحديثة التى تستخدم علوم النفس الجنائى والأدلة فى مواجهة الجريمة والمجرمين وهو أمر غير متوافر فى جهاز الشرطة المصرى بسبب ضعف الإمكانيات. ويضيف اللواء عبدالرحيم: جهاز الشرطة مبنى على عناصر محددة أهمها الأفراد والمعدات المتمثلة فى السلاح والتجهيزات. الأفراد هم الضباط وصف الضباط والأمناء والعاملون المدنيون وجميعهم يعانى ضعف الدخول كما أسلفنا. وبالنسبة للمعدات فمازالت الشرطة المصرية تعمل وكأنها لم تغادر القرن ال(19) فالعالم كله يعرف الآن كاميرات التصوير الموجودة فى الشوارع والمنشآت العامة والخاصة وكلها مرتبطة بغرف عمليات صغيرة موجودة فى كل حى. ورجل الشرطة نفسه مجهز بسلاح مناسب وملبس لائق وأجهزة تصوير وتسجيل وبناء على امتلاكه لهذه الأدوات عليه أن يقدم الأدلة المصورة والمسجلة للمخالفة والجريمة كقرينة للاتهام ضد مرتكبيها. والمركبة التى يستغلها أيضًا رجل الشرطة مزودة بكاميرا يراقب من خلالها من على بعد ولا يعرّض نفسه للاحتكاك المباشر بالجمهور ومن خلال هذه المركبة يمكنه أن يتحرك بسرعة منتقلًا إلى مكان الحدث فيضبط أو يّدعم ويعزز قوة أخرى حسب المهمة. وبالوضع الحالى القائم لن تكون هناك منظومة أمن عصرية أو متكاملة ولابد من إحداث إعادة هيكلة كاملة لمنظومة الأمن وجهاز الشرطة. (5) الهيكلة سمعنا كثيرًا هذا اللفظ.. «الهيكلة» وتصورنا أنها إخراج عدد من أفراد الشرطة المتجاوزين والمعاونين على الممارسات السابقة قبل الثورة أو مرتكبيها فما مقصودك بهذا الوصف هنا. قال اللواء عبد الرحيم: الهيكلة التى أقصدها تبدأ بإنشاء جهاز للشرطة المحلية وهى خلاف الشرطة المركزية القائمة. وهذا الجهاز الشرطى يكون مرتبطًا بالأحياء وفى كل حى يتم إنشاء إدارة للأزمات وغرفة عمليات مجهزة بشاشات عرض مربوطة بالكاميرات التلفزيونية المنتشرة فى الشوارع والمنشآت بالإضافة إلى باقى الإمكانيات التى أشرنا إليها سابقًا والتى يجب أن تتوفر فى عمل رجل الشرطة الذى يعمل فى الشارع. من يتحمل تكلفة هذا الجهاز؟! أجاب اللواء عبد الرحيم : التكلفة يمكن تدبيرها من متحصلات رسوم النظافة والخدمات المقدمة فى الأحياء ونسبة من المخالفات مثل إشغالات الطريق والمخالفات المرورية والتنظيمية ويمكن سن تشريع مناسب لحصول هذا الجهاز على نسبة 25% إلى 50%من تلك المخالفات. هذه المتحصلات المالية يمكن أن تكفى مرتبات وتجهيزات عمل هذا الجهاز دون أن تتحمل ميزانية الدولة أية أعباء. يمكن أيضاً أن نكّون هذا الجهاز من خريجى الجامعات الذين انتهوا من تأدية الخدمة العسكرية وبعد أن نخضعهم لفترة تدريب مناسبة تزيد على 6 أشهر ونوفر لهم زياً وتسليحاً مناسبا تعمل هذه الشرطة تحت إشراف مباشر ومشترك بين رئيس الحى ومأمور القسم التابع له بحيث تكون التبعية الإدارية للحى والفنية للداخلية. ومن خلال هذه الشرطة يمكن تنفيذ الأحكام القضائية وإزالة الإشغالات وضبط المخالفات المرورية وتسيير الدوريات الأمنية على أن تعزز وقت الضرورة بقوات نظامية. مهمة هذه الشرطة أيضاً أن تحمى المنشآت الحيوية القائمة فى نطاق عملها. ومن حيث تشريع إقامة هذا الجهاز فإن مواد الدستور الذى تم إقرارة من الشعب تتيح هذا وتعطى حق إنشاء إدارات أمنية جديدة لرئيس الدولة والمجالس النيابية . وتوصية فى هذا الصدد قال فيها اللواء عبد الرحيم ياليت أفراد هذا الجهاز من الأحياء التى يعملون فيها فهذا يمكن أن يسهل لهم الكثير من العمل وفى إطار إعادة الهيكلة أضاف اللواء عبد الرحيم: لابد أيضاً من إنشاء إدارة بديلة لأمن الدولة المنحل لحماية الشرعية وأن يتشكل أفرادها من ضباط أكفاء يستطيعون تنفيذ مهمة حفظ أمن مصر وإجهاض محاولات العبث بأمنها الداخلى من منظمات ودول أجنبية ويحمون أطراف الوطن خاصة سيناء. ولابد أيضاً من إعادة النظر فى الأحوال المادية لرجل الشرطة وعلى الأقل يتم منحه جزءاً من حصيلة مجهوده فى الأنشطة المدنية التى يتم فيها تحصيل رسوم من الجمهور مثل استخراج الأوراق الثبوتية والخدمات. وأخيراً قال اللواء عبد الرحيم لابد من توفير بديل للمخالفة فقبل أن نطارد الباعة الجائلين ياليتنا نوفر لهم الساحات والسويقات وقبل أن نحرر مخالفة «الركن» فى الممنوع نوفر الجراجات وهذا أيضاً من مسئوليات المحليات التى سوف يوكل لها من خلال الشرطة المحلية سلطة تطبيق قانون العقاب.