الأنباء الآتية من تونس فى مجملها لا تحمل مايسر، إذ بات المشهد السياسى أشبه بقنبلة اختزنت كثيراً من عوامل الصدام، فبعد عامين من «ثورة الياسمين» التى صارت تسمى «ثورة الحرية والكرامة» مازال الإحباط الذى اعترى محمد البوعزيزى يخيم على الكثيرين من مواطنيه. وعلى الرغم من نزعة الاعتدال التى تحاول حركة النهضة الإسلامية أن تطمئن الأحزاب العلمانية وقوى المجتمع المدنى فى تونس من خلالها، وتشكيلها حكومة ائتلافية مع حزبين علمانيين، فإن الحركة ظلت تواجه معارضة قوية من الأحزاب العلمانية والاتحاد العام التونسى للشغل، الذين يخشون فرض القيم الدينية فى بلد طالما عرف بأنه ليبرالى، كما تواجه ضغوطاً من التيار السلفى المتشدد.هذا الواقع المتوتر أفرز أزمات متعددة الأبعاد، حيث يخوض الرئيس التونسى المنصف المرزوقى ورئيس حزب النهضة راشد الغنوشى، معركة حاسمة من شأنها أن تقرر مصير الديمقراطية فى تونس، وتشهد الفترة الحالية صراعاً سياسياً بين الرجلين الأكثر نفوذاً فى تونس وهما، المرزوقى ذو الانتماء الليبرالى، والغنوشى صاحب المرجعية الإسلامية فى شأن تحديد المسار الأمثل للديمقراطية. وبعد اندلاع ثورة الياسمين فى يناير من العام الماضى، كان الاحتمال الأول أن تكون تونس دولة اسلامية محافظة، والثانى أن تحتضن المبادىء والحريات على طريقة الديمقراطيات الغربية. وسيترك فوز أى من طرفى الصراع التونسى، وتطبيق رؤيته أثراً عميقاً ومهماً ليس فى تونس وحسب، بل أيضاً فى مختلف دول الشرق الأوسط التى ألهمتها الثورة التونسية لتقوم بثوراتها ضد أنظمتها الاستبدادية. فى المجال الاقتصادى الأزمة أكثر تعقيداً والمستقبل مجهول والفئات المهمشة فى المناطق الداخلية فقدت الأمل فى الإصلاح فمعدل البطالة 18 فى المائة أى أن نحو 750 ألف شخص عاطلين، وفى «سليانة» التى تبعد 120 كيلو مترا جنوب غرب العاصمة، بدا لأيام خمسة أن الزمن قد عاد إلى سيدى بوزيد العام 2010. طالب السكان بالتنمية الاقتصادية وإنهاء التهميش الموروث من عهد بن على، وإطلاق أبنائهم الموقوفين منذ أبريل عام 2011 دون محاكمات، وعزل الوالى أحمد المحجوبى المقرب من حزب «النهضة»، فدفعت الحكومة بالجيش لمواجهة المحتجين، واستخدام الغاز المسيل للدموع والخرطوش، وفقد البعض أبصارهم أعاد العنف المفرط إلى الأذهان. وتم تعليق الإضراب العام بعد اتفاق «الاتحاد العام التونسى للشغل» والحكومة على تهدئة الأوضاع، بعد تراجع حمادى الجبالى عن التمسك بالوالى واستبداله بنائبه، لكن هذه التسوية لم تصمد إلا ثلاثة أيام، لتقع مواجهة جديدة فى العاصمة تونس واتخذت أبعاداً تتجاوز الواقع الاقتصادى والاجتماعى. دائماً.. سيدى بوزيد الاحتفال بالذكرى الثانية لاندلاع الثورة التونسية لم يكن عادياً، فقد رشقت الجماهير أعضاء الحكومة الانتقالية بالحجارة مطالبين باستقالتهم، وتوقف الاحتفال الرئيسى فى مدينة سيدى بوزيد بوسط البلاد، وتمكن رجال الأمن من نقل الرئيس المنصف المرزوقى ورئيس المجلس التأسيسى - البرلمان - مصطفى بن جعفر غلى مكان آمن. وكان الاثنان قد وصلا إلى الميدان الرئيسى بالمدينة لإحياء ذكرى محمد بوعزيزى الذى أضرم النار فى نفسه احتجاجاً على سوء معاملة الشرطة له وأدى ذلك إلى اندلاع الثورة والإطاحة بالرئيس السابق زين العابدين بن على وبدء الربيع العربى. كان إعلان الهيئة العليا لأحزاب الائتلاف الحاكم فى تونس «الترويكا» عن إجراء الإنتخابات التشريعية والرئاسية يوم 23 يونيو المقبل، على أن تجرى الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية يوم 7 يوليو المقبل، بمثابة إنقاذ للحياة السياسية التونسية من الدخول فى نفق مظلم عندما انتهت شرعية البرلمان والحكومة فى الثالث والعشرين من أكتوبر الماضى، وتلويح عدد من القوى والأحزاب بالتظاهر بدءاً من ذلك اليوم لحمل المجلس والحكومة على الاستقالة لانتهاء شرعيتهما. أزمة الدستور من جهة أخرى أعلن رئيس المجلس الوطنى التأسيسى - البرلمان - أن النواب قد بدأوا فى مناقشة بنود الدستور خلال ديسمبر الحالى وستستمر المناقشة خلال الشهر القادم. ويرى بن جعفر أن أكبر نقطة خلاف تظل هى مسألة طبيعة النظام السياسى المقبل، فالإسلاميون يلحون على أن يكون برلمانية، بينما تطالب الأحزاب الأخرى بنظام يمنح رئيس الدولة صلاحيات مهمة. وكانت أحزاب من المعارضة قد أعربت عن مخاوفها من اعتماد النظام البرلمانى الذى يكرس هيمنة البرلمان والحزب الفائز بالأغلبية على صلاحيات رئاسة الجمهورية، وهو ما يفتح الباب للعودة إلى هيمنة الحزب الواحد على الحياة السياسية. وأكد الائتلاف الحاكم أنه يرحب بكل مبادرة تدعم الشرعية، وتبحث عن توافق حول القضايا الأساسية على أن يتم البت فيها داخل البرلمان باعتباره السلطة الأصلية فى البلاد. قبل انطلاق ثورة «الياسمين» كان جميع الفرقاء السياسيين ينتظرون رحيل بن على لبناء نظام ديمقراطى يوفرلهم التعايش والتنافس، لكن بعد رحيله المفاجىء، هيمن هاجس السلطة على أصدقاء الأمس، وأصبح كل منهم يرى أنه الاجدر بإدارة الحكم، ومن الواضح أن القيادات التى تولت مراكز القيادة بعد الثورة تعوزها الخبرة الكافية فى السياسة، فالكثير من المواقف تنبىء بأننا أمام ثوار أو معارضين ولسنا أمام رجال دولة.. ومازال رفاق البوعزيزى يعانون الإحباط.