فى مثل هذه الأيام المباركة كانت تغمرنا البهجة أيام طفولتنا وسائر أبناء جيلنا ممن تجاوزوا اليوم سن الستين استقبالا لعيد الأضحى المبارك الذى كانت تظلله سعادتنا بالأجواء الربانية لموسم الحج.. وما يستتبعه من مراسم احتفالية كادت اليوم تندثر حتى أصبحت رحلة الحج شأنها شأن كل السفرات إلى أى مكان دون مكةالمكرمة والمدينة المنورة.. هذا ناهيك عما كانت تحفل به هذه المراسم من زينة هى الأشبة باللوحات التشكيلية الرائعة مثل السفن العائمة التى ترسم على جدران من يهبه الله بهذه الهبة الغالية وهى القدوم نحو الأراضى المقدسة تأدية للفريضة الخامسة وهى حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.. فضلا عن لوحات مصاحبه لبواخر يكتب عليها «باسم الله مجريها ومرساها» وغيرها من العبارات التقليدية التى تترجم الفرحة والسعادة وقبلهما الإيمان الفطرى بطاعة الحق سبحانه وتعالى ووجوبية أداء فرائضه.. وكانت تلك المظاهر المحببة تنتهى حين يقبل علينا العيد.. وتبدأ رحلة الاستقبال للعائدين من ضيوف الرحمن.. ونفس الشىء كان يحدث حين يطل علينا هلال رمضان بعد غيبة عام كامل لنحيا فى مصر أروع أيام رمضان وخاصة فى ريفنا المصرى الذى كان فى ذلك الوقت لم يزل يحتفظ بموروثه التاريخى منذ الدولة الفاطمية التى إبتدعت خلال حكمها لمصر كثيراً من التقاليد التى أصبحت تميز مصر عن سائر الدول الإسلامية وخاصة فى شوارع القاهرة الفاطمية والتى مازالت حتى اليوم تعيش بقية من هذا الزمن الجميل الذى يتجلى فى حى الإمام الحسين رضى الله عنه والأحياء المجاورة له.. وتستمر هذه الاحتفاليات حتى يأتى عيد الفطر المبارك لتتضاعف تلك المباهج والمسرات. وتمر الأيام ليبدأ الشوق الغامر لانتظار هذه الأيام المباركة فى العام القادم. ورغم بساطة هذه المشاهد الممتعة فإنها تركت لنا تراثا هو مثار فخر واعتزاز بكل المصريين حتى إن الأشقاء من دول العالم الإسلامى إذا ما أراد أحدهم استشعار بهجة هذه الأيام المباركة يأتى إلى مصر المتفردة بهذه الأجواء الروحانية الغامرة بكل ألوان السعادة والسرور.. *** ولم يكن الفن المصرى بمنأى عن مواكبة الاحتفال بهذه المناسبات الدينية حتى إن المؤرخين لفنون الإبداع المصرى سجلوا كثيرا من الإبداعات الفنية على اختلاف مجالاتها وألوانها وخاصة الإنشاد الدينى وحلقات الذكر التى كانت تزدحم بها الشوارع والميادين والساحات الرحبة فى مدننا وقرانا وخاصة تلك التى تتجاوز مقامات أولياء الله الصالحين ومساجدهم وخاصة ممن تنسب صحابتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى فى مقدمتهم سبط النبى وابن السيدة فاطمة الزهراء الإمام الحسين وشقيقته السيدة زينب رضوان الله عليهما بمدينة القاهرة وأبو العباس المرسى بالإسكندرية والسيد أحمد البدوى بطنطا وسيدى إبراهيم الدسوقى بدسوق وعبد الرحيم القنائى بقنا وسوف تضيق المساحة بذكر ما يضمه ثرى مصر من احتضان لكثير من أولياء الله الصالحين.. ولم تقتصر الفنون على الإنشاد الدينى الذى كان ملمحا أساسيا فى المشهد الصوفى المصرى. إنما تجاوزته للفنون الحديثة نسبيا. من أبرزها فن الموسيقى والغناء حتى أصبحت بعض الأغنيات والمقطوعات الموسيقية هى الوسيلة المثلى التى تنقلنا إلى حيث هذه الأجواء العاطرة حتى ارتبطت بالمناسبات الدينية ارتباطا شرطيا يضاعف من إحساسنا بجلال هذه المناسبات.. وإذا كان صديق العمر الفنان الكبير والمؤرخ الموسيقى والكاتب الصحفى المرموق محمد قابيل له الباع الأطول فى هذا المجال إلا أننى اليوم استعين بفيض علمه الغزير ولعلنى استطيع أن أعبّر عن مكنون مقصدى من خلال ما علمته وتعلمته منه.. وفى هذا السياق لابد أن أذكر الأغنية الخالدة لكوكب الشرق أم كلثوم «ياليلة العيد أنستينا» تلك الأغنية التى تجعلنا حتى الآن نستعد لاستقبال العيدين بمزيد من الفرحة والسعادة رغم مرور عشرات السنين التى تتجاوز أعمارنا ولم تزل لها نفس الأثر الرائع الذى يحيى فينا الإحساس الإيجابى بهذه الأعياد والذى كادت تطمسه حياتنا المادية الخشنة التى افتقدنا خلالها كل ألوان البهجة التى كانت تغمرنا فى طفولة الزمن الجميل. وتأتى أغنية شريفة فاضل «تم البدر بدرى» والتى عادة ما تذاع فى العشر الآواخر من رمضان وأصبحت أحد مراسم توديع أيامه لنستشرف أيام عيد الفطر المبارك.. وأذكر أننى تقابلت مصادفة مع الفنانة الكبيرة شريفة فاضل منذ ربع قرن مضى فقلت لها إن هذه الأغنية حين أسمعها تعبىء الأجواء من حولى برائحة «الفانيليا» التى تستخدم عادة فى صنع حلوى العيد. فكانت سعادتها غامرة بهذه اللفتة، وجرى بيننا حوار ثرى حول جودة وخلود الفن الأصيل.. واستدلت شريفة فاضل على ذلك بخلود أغنيتها الرائعة والتى تجاوز عمرها أكثر من نصف قرن كامل.. ومازالت قائمة مثل هذه الروائع تزدحم بكثير منها ولكن لن تسمح المساحة المحدودة بذكرها جميعا وحسبها مثلا لا حصرا يشى بما كانت عليه الأعياد أيام زمان.. *** وإذا كانت الذكريات الجميلة قد حملتنا وأعادتنا إلى الزمن الجميل فإن الواقع الذى نحياه هذه الأيام - وبكل أسف - على النقيض تماما حتى أصبح العيد - وأكرر الأسف - مبعثا لكل الذمائم والعادات السئية ولا أتجاوز حين أؤكد الصفات القبيحة وكفانا جميعا أنه كلما اقتربت أعيادنا يصحبها تحسب وحذر من وقوع ظاهرة شاعت باسم «التحرش» حتى أصبحت موضوعا موسميا عبر وسائل الإعلام المختلفة مقروءة ومسموعة ومرئية وربما كان لذلك أثر عكسى فبدلا من أن تقوم هذه النوافذ الإعلامية بدور تقويمى أصبحت تبرزها بشكل يجعلها على غير الحقيقة أحد مراسم الاحتفال بالعيد والعياذ بالله حتى إن أماكن بعينها تذكر كمواقع لفعاليات هذا الفعل الشائن وكأنها ترسم خريطة للمارقين أخلاقيا ومنها شارع جامعة الدول العربية.. وغيره من المواقع كالميادين والشوارع المزدحمة.. وقد غفل هؤلاء الإعلاميون أن القاء الضوء على هذه الظاهرة المرفوضة بهذه الطريقة السلبية قد اكسبها صفة الاعتياد وكأنها تبدو شيئا عاديا رغم فداحة أضرارها على المجتمع وزعزعة استقراره فضلا عما تصيبه من وهن لوازعه الأخلاقى وموروثه القيمى.. *** وقد مضى عيد الأضحى منذ أيام ولم يخل من هذه الظاهرة المؤسفة والذى يؤكد ذلك أن جهات رسمية قد أخذت خطوات إيجابية نحو القضاء عليها ومنها البيان الذى أصدره المجلس القومى للمرأة راصدا شيوع هذه الظاهرة فى كل ربوع مصر حيث لم يقتصر التحرش على القاهرة والإسكندرية فحسب بل تجاوزهما إلى الأقاليم كمدينتى طنطا والمنيا وغيرهما مما دعا رئيس الوزراء د. هشام قنديل لتوجيه دعوة إلى القوى السياسية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى لتوحيد جهودهم للقضاء على هذا السلوك الشائن. كما توجه رئيس الوزراء بدعوة إلى الأسرة المصرية لإحكام الرقابة الصارمة على أبنائها وتفعيل سبل التربية القويمة لهم إلى جانب المدارس والجامعات ودورهم التوعوى بالآثار السلبية على المجتمع من جراء هذه السلوكيات المنحرفة على اختلاف نوعياتها.. *** ومن الظواهر المستحدثة والتى ظهرت بوضوح خلال أيام عيد الأضحى هو استغلال دور العبادة فى الدعاية السياسية وخاصة الساحات الكبرى التى شهدت صلاة العيد مما أضفى على هذه المناسبة الجليلة صفات لم نعتدها من قبل وكأنها مؤتمرات سياسية وكأن شعبنا المصرى العظيم بحاجة إلى افتقاد ما كان يشعر به فى سابق الزمان من بهجة الأعياد.. وحتى لا نبالغ فى النظرة المتشائمة لما صارت عليه الأعياد فى بلادنا هذه الأيام فإننا نرجع ذلك إلى أن الماضى مهما حمل من سلبيات فإننا لا نذكر له إلا الجميل من الذكريات وهذا من فضل الله علينا، بما يؤكد أن أبناء هذا الجيل سوف يذكرون ما حمله ماضيهم من مباهج أعيادهم.. ولا أجد ترجمة أصدق تعبيرا عما نشعر به من فقدان لبهجة هذه الأيام سوى ما قاله أبو العتاهية: بكيت على الشباب بدمع عينى فلم يغن البكاء ولا النحيب فيا أسفا أسفت على شباب نعاه الشيب والرأس الخصيب فياليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب