قبل فترة قابلت مسئولاً برلمانياً أوروبياً رفيع المستوى.. وخلال الحوار قال لى: إن مصر بعد الثورة ستكون أقوى وأكثر ثقلاً على الصعيدين الإقليمى والدولى.. لأن الديمقراطية الحقيقية تمنح الحاكم سنداً شعبياً.. وتمنح الدولة نفوذاً أوسع وتأثيراً أعمق لأن الحاكم يستند إلى إرادة ناخبية.. خاصة إذا جاء من خلال انتخابات حرة ونزيهة وشفافة.. ومن خلال هذه الرؤية الغربية الثاقبة.. نستطيع القول بأن مصر الثورة بدأت بالفعل تجنى ثمار التغيير على المستويين الإقليمى والدولى وفى مجالات عديدة.. اقتصادية وسياسية وتجارية. وعندما نقرأ «جولات» الرئيس مرسى الخارجية على مدى شهرين نكتشف عدة دلالات.. لعل أبرزها كثافة الحركة السياسية والدبلوماسية رغم قصر الفترة الزمنية التى قضاها الرئيس فى منصبه حتى الآن، وأيضاً اتساع نطاق هذه الحركة التى بدأت بالسعودية عربياً.. ثم أثيوبيا أفريقياً.. والصين وإيران آسيوياً.. ثم الولاياتالمتحدة وماليزيا.. ونحن نتوقع جولات وزيارات أخرى للرئيس خلال الفترة القادمة.. إقليمياً ودولياً. ولعل أهمية هذه الجولات تكمن فى التوقيت والهدف، فمصر تشهد تحولات كبرى نتيجة ثورة يناير.. وهذا شىء متوقع.. ولكن أن ينطلق الرئيس خارجياً فى ظل هذا الفوران والتغيير الداخلى الكبير فهذه مخاطرة محسوبة ومطلوبة أيضاً! لأن الخارج.. يمكن أن ينعكس إيجاباً على الداخل.. فى هذه المرحلة الحرجة التى نحتاج فيها إلى إيجاد قنوات جديدة للتدفقات الاستثمارية وبناء شراكة اقتصادية أكثر رسوخاً تقوم على المصالح المتبادلة وليس على الهبات والمنح المذلة والمهينة. نعم لقد عشنا فترة طويلة من الهيمنة والتبعية سواء للشرق أو الغرب.. للاتحاد السوفيتى.. أو للولايات المتحدةالأمريكية وتوابعهما.. ولكننا نعتقد أن الاستراتيجية المصرية الجديدة ستقوم فى أول محاورها على استقلالية القرار والسيادة المصرية.. فعلاً.. لا قولاً.. أو دعاية زائفة صدَّعنا بها النظام البائد، نحن نريد من كل دول العالم - دون استثناء - أن تحترم القرار المصرى والإرادة المصرية.. وأن نبادلها نحن ذات السياسة، ويجب أن نقول للأشقاء قبل الأصدقاء: لا تستغلوا حاجة مصر إلى الاستثمارات أو مال سوف يأتى بكل الطرق.. ومن خلال أطراف عديدة تدرك أن مصر سوف تنطلق إلى آفاق واعدة ومشرقة بمشيئة الله، لا تستغلوا أوضاع العمالة المصرية.. فهذه الأيادى الشريفة شاركت فى بناء كثير من الصروح فى كل البلاد. وكم رأيت من عمال وفلاحين مصريين منتشرين فى كافة الدول العربية يحملون المعول.. كما يحملون القلم وينشرون الفكر.. وينثرون رحيق أرض الكنانة فى ربوع الأشقاء. يجب أن يدرك الجميع أن مصر الثورة سوف تكون سنداً لهم ولأمتها العربية والإسلامية.. سنداً حقيقياً عند الشدائد والمحن. وهذا لا ينطلق من اتفاقية الدفاع العربى المشترك فقط.. بل من جذور التاريخ والحضارة العريقة التى تجمعنا واللسان الواحد الذى ننطق به والهوية الأصيلة المتجذرة فى أعماقنا. وقراءة فى جولات الرئيس تكشف أنه بدأ يوجد مساحات جديدة للحركة السياسية والدبلوماسية المصرية.. خاصة مع الصين وإيران وأفريقيا، وصحيح أن علاقتنا قديمة وتاريخية بالصين.. منذ آلاف السنين.. وأيضاً خلال العقود الماضية.. إلا أن علاقة مصر الثورة بالتنين تختلف الآن، والصينيون يدركون ذلك تماماً.. ويخططون لآفاق جديدة، فى علاقات البلدين، ولعل وفد رجال الأعمال الكبير الذى رافق الرئيس وحجم ونوع الاتفاقات التى تم توقيعها تبشر بمرحلة جديدة، فى علاقات البلدين، بل إن دبلوماسياً صينياً رفيع المستوى قال لى إنهم يخططون لاستثمارات أوسع وعلاقات أعمق مع مصر. أما إيران.. فرغم قصر الزيارة ورمزيتها والحسابات الدقيقة التى تمت على أساسها وما حدث خلالها.. فإن مجرد ذهاب رئيس مصرى إلى طهران يمثل نقطة تحول بعد عقود من القطيعة والجفوات والأخطاء، والإيرانيون يدركون أهمية وثقل مصر ليس بعد الثورة فقط، بل بعد سقوط نظام الأسد الذى يمثل حجر الزاوية فى استراتيجيتهم الإقليمية، ويريدون ويخططون لتعويض هذه الخسارة المتوقعة.. والفادحة، ولكن مصر أكبر وأذكى من أن تدخل فى هذه اللعبة الخطيرة والمعقدة.. وهى فى وضع أقوى يمنحها القدرة على صياغة العلاقات مع طهران وفق رؤيتها الوطنية ومصالحها الاستراتيجية.. وفى التوقيت المناسب لنا.. وليس لأى طرف آخر.. ودون الخضوع لأى ضغوط أو شروط! ومن المؤكد أن كلمة الرئيس مرسى فى قمة عدم الانحياز قد فاجأت الجميع.. بما فيهم الإيرانيون والسوريون الذين انسحبوا غاضبين من كلمة حق وموقف صدق اتخذه الرئيس المصرى الذى أشاد بالثورة السورية على النظام الظالم الذى فقد شرعيته.. وأشار الرئيس إلى أن التضامن مع الشعب السورى أصبح «واجباً أخلاقياً بقدر ما هو ضرورة سياسية». هذا الموقف والمواقف السابقة للرئيس (بدءاً من عودة مجلس الشعب ثم إقالة المشير وعنان) يكشف أسلوب تفكير وتخطيط الرئيس على أسس موضوعية مدروسة.. مع مفاجآت تكتيكية فى التنفيذ.. ويمكن من خلال هذا الأسلوب استشراف آفاق المستقبل لسياسة الرئيس.. وسياسة مصر أيضاً. كما أن قوة ووضوح الموقف المصرى من الأزمة السورية يؤكد أننا نسير على الطريق الصحيح لاستعادة هذا الدور الريادى الذى نستحقه بكل المقاييس.. بتعاون جميع الأطراف والقوى الوطنية، فالرئيس لن يبنى مصر منفرداً.. ولن يحقق الإنجازات.. وحده. ومن ملامح الريادة المصرية الخارجية الجديدة.. إطلاق مبادرة مصرية لحل الأزمة السورية خلال قمة مكة، فبعد الدعوة لتشكيل لجنة عربية إسلامية لمعالم هذه القضية.. جاءت تصريحات الرئيس مرسى واضحة وقاطعة قبل زيارة الصين.. عندما أكد أنه قد «آن الأوان لتغيير النظام وليس إصلاحه».. نعم لقد انتهى زمن التغيير الداخلى، وبدأ العد التنازلى لزوال «الأسد».. وكل الأسود الزائفة!! وتبقى فقط عدة تساؤلات: متى يسقط؟.. وكيف؟.. وهل تتمزق سوريا الشقيقة العزيزة أشلاءً بين المذاهب والأعراق؟، وما تأثير هذا السقوط على المنطقة بأسرها.. وأولها إيران وإسرائيل؟! هذا الموقف القوى من الأزمة السورية لم يحدث منذ سنوات طويلة.. وفى قضايا كثيرة! ونأمل أن يكون هذا الموقف القاطع الواضح مقدمة لمواقف أخرى من القضايا المصيرية لأمتنا، ومنها قضايا اضطهاد المسلمين فى كل مكان.. وقد أعددنا ملفاً شاملاً داخل هذا العدد عن هذه القضية.. لأول مرة منذ انطلاق مجلة أكتوبر عام 1976. أما زيارة الرئيس لأثيوبيا لرئاسة وفد مصر إلى القمة الأفريقية فهى مؤشر مهم على استعادة الوعى المصرى لحيوية القارة السمراء لأرض الكنانة، فمنها يصل إلينا شريان الحياة الرئيسى وليس الوحيد (النيل)، ومثلما أهمل النظام البائد هذه الساحة الكبرى التى استغلتها دول إقليمية ودولية بخبث ودهاء.. وعلى حساب الدور المصرى.. يجب أن نستعيد هذه الساحة من خلال بناء شراكة حقيقية مع دول حوض النيل.. شراكة متكاملة.. اقتصادية ودبلوماسية وتجارية.. وعسكرية أيضاً، فلا مانع من توسيع نطاق التعاون لنقل الخبرات الأمنية والعسكرية المصرية وإنشاء مشاريع اقتصادية عملاقة فى دول حوض النيل حتى ترتبط مصر مع هذا التجمع الحيوى بمصالح قوية وحقيقية وتجعلنا محوراً أساسياً فى سياستها الخارجية.. ونحن نتطلع إلى استثمار جولات الرئيس اقتصادياً وتجارياً وأن ينعكس ذلك على حياة المواطن البسيط، فقد كان النظام البائد يوظف كل علاقاته وخبراته الإقليمية والدولية لخدمة مصالحه وأركان عصابته فقط، بل كان يتاجر بدور مصر وتاريخها ومكانتها فى سوق النخاسة السياسية والدبلوماسية.. حتى تضخمت «كروش» زبانيته.. ثم انفجرت فى نهاية المطاف! بمعنى آخر.. نريد توظيف هذه العلاقات وترجمتها إلى مشاريع لحل مشاكل الشعب.. ولنبدأ بلقمة العيش وزراعة القمح مع السودان.. حيث الأراضى الزراعية الشاسعة والمياه الغزيرة الوفيرة.. التى غمرت ودمرت مناطق كثيرة فى الجنوب العزيز على قلوبنا جميعاً. و أخيرا فإن الحركة السياسية والدبلوماسية الجديدة يجب أن تسعى لبناء نظام عالمى جديد يشمل الهند والصين وروسيا والبرازيل وقوى إقليمية مؤثرة.. مثل السعودية وإيران وتركيا، وأعتقد أن المناخ مواتٍ الآن لخلق هذا التحالف الجديد.. وتوسيعه وتعميقه.. بما يفيد المصالح القومية المصرية، ويمكن لمصر أن تقوم بدور ريادى فى هذا الاتجاه.. نستعيد من خلاله مكانة ضائعة.. ونفوذاً مفقوداً.. وزمناً جميلاً!